الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الذاكرة والالتباس ما بين الشهيد والضحية

سليم معوض
A+ A-

ربما تكون اختلطت علي الأمور حين توهم لي قراءة خبر يمكن أن يكون بمثابة اعتراف بإعلاء شأن المواطن اللبناني. خبر يفيد بأن محافظ بيروت قد وعد بإقامة نصب تذكاري لشاب يدعى محمد الشعار كان قد وقع ضحية تفجير ستاركو. بعد حادثة التفجير هذه ومن بعدها حارة حريك، بقي في ذهن الكثيرين ذكرى شباب سقطوا، بعد تسابق الكثيرين على إعلانهم شهداء وليس ضحايا.


ارفض أن أتحقق من خبر كهذا خوفا من خيبة أمل من الممكن أن تنسف نبل هذه المبادرة الجريئة والجديدة في بلد إجرامه دائم وذاكرته تتوقف عند "السياسي الشهيد"، وفي الحد الأقصى عند "السياسي الشهيد ومرافقيه". ففي لبنان تناسى أو رفض المواطن حقه الأصيل بإحياء ذاكرة من وقع من اهله ضحية الحرب العبثية من خلال المطالبة بمبادرات الذاكرة والهادفة لضمان عدم التكرار. فأين اللبنانيون من مبادرة الذاكرة الجماعية لتذكرهم بأن أهلهم هم مواطنون ضحايا سقطوا ومازالوا يسقطون دون المساءلة عن السبب أو المسبب؟ ربما أريد أن أؤمن بأنه سيكون لمحمد الشعار، والكثيرين من أمثاله الشباب الأبرياء كملاك زهوي وعلي حسن خضرا، إضافة إلى العشرات الذين يقعون ضحية العنف المستمر في طرابلس، الذين سقطوا وغيرهم الذين سيسقطون، نصب تذكاري حيث تحفر أسماؤهم وحدهم بالخط العريض دون أن تأتي ثانوية وملتصقة مع أو تحت اسم "السياسي الشهيد".
تزامنا مع التفجرين تواجدت في بيروت لعقد ورشة عمل لمقاربة سياق مبادرات إحياء الذاكرة في لبنان من خلال خمس دراسات علمية مع خمسة بلدان أخرى بغية التوصل لحلول مبتكرة لإحياء الذاكرة الجماعية على الصعيد المحلي. انتهت هذه الدراسات الخمس، إلى جملة "مبادئ توجيهية لإحياء الذاكرة" هدفت لتسهيل عملية إحياء الذاكرة الجماعية المحلية من خلال التبادل الدولي المعرفي.
أظهرت كل من الدراسات الخمس ان في كل من كمبوديا وغواتيمالا حيث طبيعة النزاع عمودية، تتعدد أوجه الشبه مع النزاع اللبناني الذي شهد على تدخل مباشر لدول كبرى ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب. أما أوجه التشابه مع دول عانت من نزاعات ذات طبيعة أفقية مثل بوروندي وجنوب إفريقيا والبوسنة والهرسك، فالصورة ليست بحاجة للكثير من التظهير مقارنة مع النزاع الطائفي والمذهبي الإيديولوجي في لبنان.
يستوقفني وقوع الشاب محمد الشعار وغيره من الشباب ضحية العنف وخبر إقامة نصب تذكاري له. إن تحوّل هؤلاء الشباب من شباب كان يمكنهم إن يشاركوا في عملية إحياء ذكرى الآخرين إلى شباب من المفروض الاحتفاء بذكراهم كضحايا وليس كشهداء وذلك على المستوى المجرد من التسييس والتجاذب والتوظيف السياسي، يدفعنا للتنبيه على العقبات التي تمكن أن تنسف هذه المبادرة. هذا، مع الاعتذار المسبق لأهالي الشباب هؤلاء، حيث أن صفة الضحية ترفع من شأنهم لحين أن يتوحد اللبنانيون حول مفهوم الشهادة بعيدا عن الاستغلال السياسي الاستنسابي.
إن تداخل الطبيعتين الأفقية والعمودية للنزاع في لبنان يولّد حالة سياسية شبه مستعصية لإحياء ذاكرة جماعية بحيث أن هذا التداخل المعقد يولد التباساً بين مفهوم القتيل والشهيد والضحية بالتحديد. يضاف إلى ذالك حقيقة دورالكثير من المواطنين اللبنانيين من مختلف الاطياف المسيّسة في التنظيرأو المشاركة في النزاع، فكيف لمطلق رصاصة تردي مواطناً آخر أن يعترف لهذا الأخير بحق الشهادة مع كل الاختلاف البنيوي الذي أدى للنزاع في ما بينهم؟ ليس من المستغرب توصيف محمد الشعار بالشهيد من قب الفريق السياسي الآذاري الذي استُهدف في تفجير ستاركو فالبلد ومنذ العام 2004 يتسابق نحو الشهادة والتخوين والمنازلة في السيادة والوطنية. فهل من الممكن اليوم القول باجماع جماهيري من قبل 14 و8 آذار حول تسمية "الشهيد"؟
قد يقول البعض إن إحياء ذاكرة هؤلاء السياسيين الذين سقطوا من كلا الفرقين قد تمت من خلال رفع نصب تذكارية في مكان مقتلهم أو استشهادهم أو تحديد تواريخ لتلك الغاية أو نشر صورهم في الشوارع، ولكن من الصعب القول بإجماع شعبي عام حول هذه المبادرات. من الواضح بأن هذه المبادرات تبقى في سياق "خصخصة الذاكرة" على أساس إيديولوجي سياسي أو طائفي مذهبي خاص دون الأخذ في الاعتبار المواطنين الذين سقطوا بجانبهم أم بسببهم. حتى إن إطلاق صفة شهيد من قبل سياسي قد قتل على سياسي مضاد من المقلب الآخر أضحت تبرئة لخطه السياسي من اتهام محتمل في زمن التخوين ومجاملة كلامية تضامنية فارغة. وما يزيد من تعقيد المسألة هو جغرافية وقوع الجريمة إذ إن "الشهيد" لا يتجول قبل استشهاده الا في بيئته الديموغرافية الحاضنة لفكره السياسي وذلك خوفا من غدر الآخر فتأتي مبادرات إحياء الذاكرة هذه مركزة مناطقيا ذات بعد خصوصي بعيدة كل البعد عن العمومية. إن هذا الانقسام الأفقي بين اللبنانيين حول الهوية الوطنية ومفهوم الشهادة لن يسمح لمواطن الأشرفية برؤية صور "شهداء المقاومة الإسلامية" في ساحة ساسين كما انه يلغي أي احتمال لتسمية أحد شوارع الضاحية الجنوبية العريضة لبيروت بـ"شارع الرئيس الراحل الشهيد بشير الجميل".
يبقى وبدون إي شك مفهوم تسييس إحياء الذاكرة من اخطر العوامل السلبية التي ليس بالسهل تخطيها في بلد مازال يعيش أزمة هوية وطنية مسيّسة ايديولوجيا وطائفياً ومذهبيا في تاريخه وحاضره. فهل من الممكن تجنيب مبادرة إحياء ذاكرة محمد الشعار، أو غيره من الشباب الضحايا، التجاذب السياسي والتوظيف المذهبي؟
عطفا على توصيف الوضع السياسي في لبنان أعلاه، وما شهدته الساحات من تظاهرات مليونية سياسية، يتبين أن الكثير من الشباب اللبناني أصبح محركاً للواقع السياسي المستقطب والمشرّع لتخوين الآخر من قبل النخب السياسية ما يؤدي بطبيعة الحال لتعطيل عملية الذاكرة الجماعية. من المعروف بأن الأسباب البنيوية للنزاع القديم والجديد في لبنان قد ورثه الشباب بطريقة استنسابية. وما يزيد من خطورة هذه الظاهرة هو عدم اعتماد لبنان لآلية عدالة انتقالية عند انتهاء النزاع والتي تهدف لمعرفة وتبيان حقيقة ما جرى من عنف لتحديد المسؤوليات والحد من الإفلات من العقاب لعدم التكرار.
لم يتسنَّ للشباب اللبناني، باستثناء قلة قليلة، مراجعة الماضي ومساءلة أمراء الحرب، فركبوا مركب الخطاب المذهبي وذهبوا إلى حد القبول بتحولات قادتهم السياسية دون الالتفات لمراجعة الماضي والمضي قدماً لمحاولة إحياء مبادرات ذاكرة جماعية. لكن الامر الايجابي في قضية محمد الشعار هو اتصال هاتفي من قبل نسيب له ليخاطب أخا الضحية علي حسن خضرا واصدقاءه، خلال مقابلة على قناة المنار، لتعزيتهم وإظهار كل أشكال التضامن معهم. أتى الكلام صادقا ليعبّر عن أمل في توحد الشباب حول التوافق على نبذ العنف بعيداً عن الديناميكية السياسية المغلقة.تطرح هذه المخاطبة سؤالا حول قدرة الشباب على الترفع عن الاختلاف للتلاقي من اجل إطلاق مبادرة لا تتوقف فقط عند تبادل التعازي بل تذهب لأبعد من ذلك نحو مبادرة تهدف لإحياء ذكرى الشباب الضحايا مجتمعين.
إن الجهات الفاعلة من مجتمع مدني ودولة مطالبة بجمع الشباب وتحفيزهم للتحاور من أجل تحقيق هذه الرؤية وتطبيق المبادرات التي من شأنها تشكيل شبكة أمان مجتمعية تحول دون انقسام عنفي عند الاختلاف السياسي. أقله، تشكل فئة مجتمعية تندد بالعنف وتعلن صراحة رفضه. لم يشرع اللبنانيون في إطلاق مسار المحاسبة عن جرائم الحرب مباشرة بعد اتفاق الطائف ما يصب في تشكل ذاكرة جماعية. ألم نتيقن بعد بأن الى مبادرات مثيلة من شأنها، اقله، رسم الحدود الفاصلة، في الزمان والمكان، بين الحرب المتكررة والسلم المنشود؟ وهل من الممكن التوافق حول مبادرة ذاكرة واحدة لكل الشباب الضحايا تصبو بهم لمنزلة "شهداء الوطن"؟


مدير بعثة Impunity Watch، برنامج افريقيا

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم