الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

"هواجس الضياع" للحسين أيت بَها: رواية العودة من الجنون

أحمد الشيخاوي
"هواجس الضياع" للحسين أيت بَها: رواية العودة من الجنون
"هواجس الضياع" للحسين أيت بَها: رواية العودة من الجنون
A+ A-

في منجزه الروائي الباكورة، الصادر حديثاً عن دار الدراويش بجمهورية بلغاريا، والذي انتقى له عتبة "هواجس الضياع"، يحاول المغربي الحسين أيت بها، المنحدر من مدينة زاكورة، تقديم مشروعه على أنه كيان يتوسّل ملامح الاكتمال، لا فقط، عصارة حكاية تشوش عليها التشعبات، فهي تُتداول بعفوية وشكل منمّط، وتتناقلها الألسن للتسلية، عوض عروض النهل من عِبر وحكم شتى، في مقدورها التغيير من عقلية جيل، تجاه ظاهرة الجنون.

بحيث تقترح هذه الفسيفساء السردية، في تركيزها على البطولة الواحدة، مثلما ترجمت ذلك شخصية عبد العالي الملقب بـ"الهداوي"، مقاربة مغايرة بالتمام للمنظومة المفاهيمية التي تعنى بمثل هذه الظواهر، وهذا يحيلنا إلى لون إبداعي جديد، دامغ برؤى أكثر موسوعية وشمولية، ضمن خطاب أدبي مسكون بروح الإنساني ونورانيته، بما هو جنوح ونزوع إلى واقع الرقي الفكري والروحي.

رواية تتلعثم بالكثير من الرموز، خاصة أنها استهلت بالبعض منهم، قصد إعطاء صور ذروة في الجمالية والرمزية والمجاز، لنظير هذه الحالة الإنسانية التي من السخيف أن تقابل في مجتمعاتنا المصطبغة بجملة من أقنعة المقاومة والتجريح والانحطاط، إذ الأصوب والأنجع هو التعاطي معها بحيطة أكثر وحساسية تليق بعمق ما تزلزل له هوية "الكائن المجنون".

وإذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء، سنجد إشراقات ومحطات وامضة لهذا الضرب من التعامل مع هكذا ظاهرة، على نحو هشّ وواع، يذوّب الفوارق بين الضفتين، أعني بين عالمين: ذوي الحاجات الخاصة والأسوياء، وقد كانت تتم المناداة على فاقد البصر، البصير، أي الذي يرى بعقله وبواطنه، وفاقد العقل، البهلول، أي الحكيم بمعنى من المعاني، وهذا على سبيل المثال، لا الحصر، ما أصّل نوعاً ما، لثقافة مبنية على أسس عقلانية تتجاوز العاطفة والشفقة، لرسم إستراتيجية إدماج حقيقي وفعال، سهل راهن مكابدة المعاناة، من لدن هذه الفئة المحاصر بالخلل الوجودي الذي له انعكاسه السلبي، بالتأكيد، على الهوية الفردية، سواء أكان هذا الاختلال أو الحالة المرضية جسدية أو نفسية أو عقلية.

وهو سلوك وملمح للرقي يجب تبنيه، على نطاق واسع، بما تنفكّ له لعنة هؤلاء الذين لا ذنب لهم في ما يعانون ويكابدون.

ينبغي فكّ الضريبة الوجودية عنهم، أقله تنويرهم بما يؤهلهم لانخراط فعلي إيجابي في مجتمعاتهم، ويعفهم في نفض تبعات السيكولوجي الجارح والقاتل أحياناً.

وأحسب الرواية كرست رسائلها لهذه الغاية بدرجة أولى.

يقول الراوي في موضع: [إلا أن الطبيب تابع حديثه وهو يعاتب عبد الرحمن على إهماله، قائلاً له بأن إمكانية شفائه منذ الوهلة الأولى واردة، ولكنكم تأخرتم في ذلك، والحقيقة أني أحسست بطمأنينة رهيبة بعد كلام الطبيب، كما أني كنت متيقناً بأن عبد العالي، سيعود إلى رشده كما كان في السابق بالرغم مما وقع من أحداث أوصلته لما هو عليه](1).

بالنسبة لبناء الرواية أو معمارها، نجده قد التزم بمعجم السهل الممتنع، وقنّن باللغة السلسة، كامل فصول هذه السردية، فضلاً عن أنه فصلها بإحكام، ما أعطاها تسلسلاً منطقياً، يغري بالمطالعة، ويبسّط على المتلقي متاهات تتبّع المشاهد وتقصي الأحداث، والتزود بالأفكار التي تفيد حالة العودة من الجنون، وتذود عن ثقافة جديدة في التعاطي مع هكذا ظاهرة قديمة ومتجذرة في الأبجديات البشرية.

يقول أيضاً في موضع ثانٍ: [آه، هل الآلام والعذابات في هذا العالم مصدرها الإنسان؟ حقير هذا الذي تسبب له في ذلك، أخوه عبد الرحمن كان ظالماً جاحداً، كيف أمكن له أن يفعل ذلك ويتركه بعد مرضه، وبعد أن قام بتكبيله، لمدة أيام معدودة، وهو يعاني ويصرخ بأعلى صوته، فتارة ينادي أمه وتارة يستعطف أهله بأن يفكوا وثاقه، كبلوه لأنه كان يحدث الفوضى، لقد قام بضرب أحد أبناء عبد الرحمن، وكسر عدة أواني، لذلك أحضروا مشعوذ القرية الذي قام بربطه، وإجباره على شرب الدواء الطبيعي، وعوض أن يهدأ، ساءت حالته، غير أن صوته خفت وأصبح وديعاً، لذلك قام عبد الرحمن بإطلاقه.

مرت أيام وعبد العالي لا زال في الشمس حتى كبرت أظافره وبدأ شعره ينمو بشكل كثيف، لقد تحول إلى رجل وديع يجلس في الشمس بجانب أخيه، حتى عبد الرحمن رقّ لحاله فأطلقه](2).

تشير الرواية إلى عبثية التعاطي مع الظاهرة، وتؤكد على أنّ لا جدوى من انزلاقات الشعوذة والتدجيل في التصدي لمضاعفات هذه الحالة الخطيرة التي تلغي هوية المفرد وتهدد أمن الجماعة وتبصم بالعار جبين الوطن.

يختلط الديني بالسياسي بالمجتمعي، من أجل صياغة مشهدية تدمي، وتحيل على أفق للمفارقة، فمن جهة التطور الذي أحرزه الطب وسائر العلوم، ومن جهة مقابلة هذا الانحطاط العقلي المكرّس لسلطة الماضوية أو الرجعية التي يعشش فيها الدجل وتلبسها وصايا الشعوذة.

يقفل المنجز بشذرة دالة على واقع التشظي، عنونها صاحب الرواية "ذكرى الهداوي" كأنما أتت كوة أو بصيصاً لهذا الرقي في المناولة الذي تناوبت عليه الذات الساردة، على امتداد فصول الشفاء، الجنون والعظمة، المصير، كرامات الهداوي، هواجس،العشق، الاعتراف، الحقيقة، وأخيراً الذكرى كسجن، تتوزع مرارته على هذه التيمات جميعها، كي تضعنا إزاء حالة تتكرر في عبورنا الآدمي، غير أننا نجابهها بكثير من العبثية واللامبالاة والإهمال والاستخفاف، مفوتين فرص إنقاذ أجيال تتعاقب وتتضارب أهدافها وأحلامها.

يقول: [الحكاية التي لن تنساها مخيلتي على مر السنين، والتي أبكتني مراراً، فلترقد روحك بسلام وليرحمك الله، يا ولي الله الصالح، الذي أخذت منه الدنيا الشيء الكثير، فليرحمك الله، صديقي عبد العالي...

أيها الهداوي: المتصوف، العاشق، الحبيب](3).

خلاصة القول إنه، من هذه الخلفية المتشبعة بالخطاب الحِكَمي الصوفي، تنطلق الرواية في معالجة حالة إنسانية متكررة اسمها "الجنون" لتقود إلى ثقافة تنتصر للرؤى الموسوعية والتوجه العلمي، معززاً بفكر تجاوز العاطفة ومضايقها، بغية بسط صفحات جديدة تلونها منظومة مفاهيمية مغايرة، في مقاربة عالم الجنون المرتبط منذ القدم، بمفردات العظمة والعبقرية والنبوغ.

هامش:

(1)مقتطف من فصل الرواية الأول، الشفاء، الصفحة 14.

(2)مقتطف من فصل الرواية الثاني، الجنون والعظمة، الصفحة20.

(3)مقتطف من الفصل الأخير، ذكرى الهداوي، الصفحة 96.

*هواجس الضياع (رواية)طبعة أولى2019، دار الدراويش، جمهورية بلغاريا.

*شاعر وناقد مغربي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم