الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

"عقيدة غافا"

منى فياض
"عقيدة غافا"
"عقيدة غافا"
A+ A-

تحت عنوان "عقيدة غافا" عالجت مجلة "مغازين الجديدة" في عدد 4 نيسان من العام 2018 موضوع "معلمي الفكر الجدد". عمالقة الرقمية الذين يرمون كل ما يتعلق بالدول، ويشكلون العالم بحسب المبادئ الليبرتارية Libertarien .

عرضتهم المجلة على هيئة معلمي مدرسة أثينا العشرين، كما رسمهم رافاييل في لوحته الشهيرة؛ مع تعريف موجز لكل منهم، وصفحة كاملة عن ملهمتهم "نبية السيليكون فالي" المشهورة باسم Ayn Rand (أين راند). وهي كانت "الفيلسوفة الرسمية" لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان. ولا تزال تمثل صورة رمزية لليمين، سواء المحافظ أو النيوليبرالي.

مؤلفة روايتي "The Fountainhead " و "Atlas Shrugged" هي روسية الأصل اسمها Alisa Zinovyvena Rosenbaum هاجرت إلى الولايات المتحدة عام 1926 لتهرب من نظام الثورة الروسية. تمجد الروايتان "فضيلة الأنانية" والتفوق الأخلاقي "للجشع دون حدود" مع إدانة دون لبس "للانحراف" نحو "الغيرية القاتلة"؛ في رفض تام للإدارة بواسطة الدولة. أصبحت بعد موتها رمزا يشبه "تشي غيفارا" الرأسمالية.

جبابرة السيليكون فالي "المليارديرات بالنظارات"، الذين وجدوا أنفسهم على رأس إمبراطوريات المعلوماتية، والمتحكمون اليوم بوجودنا بعد أن اخترعوا تطبيقا ثوريا في مرآب أو بنوا بعض الكودات (codes) غير المسبوقة، ويبدو أنهم يتزايدون يوما بعد يوم؛ يرون أنفسهم في ميثولوجيا أين راند: المبدع المستوحد والمقاول العبقري، والمجدد الذي لن تتطور، ولا حتى تستمر، مجتمعاتنا من دونه. والذين يفضلون وضع مصائرنا جميعا بين أيديهم؛ بدل أن نُتْرك "للحشود الخائفة والظلامية" تقرر لنا ولنفسها.

ستيف جوبز، الأسطوري الذي ارتبطت باسمه شركة آبل، كان يعتبرها كمرشدة له. تافيس كالانكي يؤكد أنها مصدر الوحي الذي قاده لتأسيس شركة "أوبر". جاك دورسي، أحد مؤسسي تويتر، يعتبر من "أتباع" فلسفة الروائية. حتى جيمي والز أحد مؤسسي الموقع غير الربحي ويكيبيديا، ينادي بفلسفة راند الفردانية. والقائمة لا تنتهي.

يمكن الافتراض أن حكاية راند الخرافية والبطولية تجذب نرجسية هؤلاء؛ وخصوصا رؤى المقاول العبقري غير المفهوم من الجماهير، والذي يجد لزاما عليه اتباع رؤيته حتى النهاية دون أدنى اهتمام بالنتائج. هذا ما يدعم البشر الذين تقلب تجديداتهم عمليا البنى الاجتماعية والاقتصادية الموجودة رأسا على عقب، كما العلاقات بين البشر، وليس نحو الأفضل بالضرورة.

من غير المفيد استباق ما يحفظه المستقبل لعالمنا، حتى الافتراضي منه والذي نوظف فيه الوقت بشكل تصاعدي؛ وننخرط فيه بجزء من ذاتيتنا. مع ذلك من غير المطمئن، وحتى من المفارقة أن الأدوات الرقمية والشبكات الاجتماعية التي نعيد بواسطتها تشكيل وجودنا الجماعي ومشاعر الانتماء إلى مجموعة، وصلاتنا الاجتماعية ومصدر معلوماتنا، ورغباتنا وخيباتنا، متروكة بمجملها لنزوات حفنة من أباطرة الغطرسة الخارجين عن نطاق السيطرة، لا يحلفون سوى بإنجيل العقيدة الفردانية وسيادة الأنانية من دون حدود.

في الملف وصف لعمالقة غوغل وأمازون وآبل وفيسبوك أي GAFA، ويسمونهم "زنابق الماء" (nenuphars)، المنتشرين في الفضاء السيبري، عارضين خدماتهم، وخوادمهم وسيل معلوماتهم حول الأرض. يطفون بخفة، ولا يمكن الإمساك بهم. يطلق على هذه الشركات 2.0، وتشمل الأحزاب (e- partie) والمؤسسات السياسية الحاضرة دائما لأنها تستخدم الشبكة. وهم المتلاعبون بالضوابط الأرضية وقواعد الأنظمة والضوابط المالية. وبينما يطفون فوق "الواقع الفظ"، لا ينسون غرس مجساتهم العملانية في البلدان التي تسمح بتجاوز الأنظمة "البربرية" أو المالية للدول التي تسمح بإعادة توزيع الثروات.

هذا التجاوز ينتج عن موقف فلسفي وأيديولوجي معتمد: Minimum Govrnement. Maximum Freedom. حكم أقل، حرية أكثر. هو شعار الليبرتاريين Libertarien، هذه الأيديولوجية يتقاسمها معظم مديري "غافا". تزدهر شعبية "أين راند" في الساحل الغربي من أميركا، وخصوصا من قبل المقاولين الرقميين الشبان. حلم الليبرتارية النيتشوي، حين يتحرر البشر أخيرا من الدول ويصبح بإمكانهم السفر السيبراني surfer نحو حلمهم العابر للإنسانية والعيش على المريخ لألف عام.

وإذا كانت الرؤوس الكبيرة في السيليكون فالي كتومة حول الحركة، فإن أصدقاءهم يتكلمون عنهم. لاري بيج، الشريك المؤسس لغوغل كشف عن حلمه: "امتلاك بعض المناطق الآمنة التي تسمح بالقيام بتجارب دون أن تعرض على العالم بأسره". أما بيتر ديامانديس، رئيس ثينك تانك تمولها غوغل فيقول: "سنغير الطبيعة البشرية بعمق، ونخترع أنفسنا من جديد كجنس. أنه عملنا ولن ننتظر لا حكومات ولا مواطنين". إنهم نوع من Burning Man للمقاولين، وودستوك محررة مع جانب مهووسي فرقة الهاي ـ تك. وهم يفكرون ببناء مدن عائمة خارج المياه الإقليمية للدول تكون نوعا من دول رقمية مستقلة وغير خاضعة لأي سلطة أو رقابة.

هذه الفلسفة السياسية، المجهولة في فرنسا، انبثق منها في الولايات المتحدة حزب الليبرتاريان، الذي حصل مرشحه في الانتخابات الرئاسية عام 2016 غاري جونسون حصل على 4,5 ملايين ونصف من الأصوات وحلّ ثالثا بعد دونالد ترامب وهيلاري كلينتون.

لكن هذا الحزب هو "حزب واجهة"، يشبه الأحزاب السياسية المتنكرة بشركات. من يمثل أيديولوجيتهم حقا هي الـ"غافا" المذكورة أعلاه. يترأس الشركة مؤسسوها غالبا، الذين يملكون غالبية الأسهم أو المرجعيات الذين يملكون كاريزما قوية. قراراتهم يُوافَق عليها من قبل مجمع إداري يلعب دور المكتب السياسي. أما مؤتمرهم فهو الهيئة العامة المكونة من حملة الأسهم. واجتماعاتهم؟ هي اتفاقاتهم وحلقاتهم الدراسية، حيث يسود حماس الموظفين وكوادر الشركة. أما القاعدة فهي الموظفون ذوو المعاشات المرتفعة (يقبض المتمرن في فيسبوك ما يقارب 8 آلاف و500 دولار شهريا)، ما يضمن، إذا لم يكن الخضوع التام للأيديولوجية السائدة، فعلى الأقل بعض الحياد تجاهها. عدا عن أن الموظفين يكونوا سعداء بمجرد انتماءهم إلى حركة رؤيوية تفتقدها الأحزاب التقليدية. فحسب أحد أساتذة جامعة Leyde فقدت أحزاب أوروبا السياسية نصف محازبيها منذ نهاية العام 1990.

ونعلم جميعا أن هذه الشركات الرقمية يمكن أن تبيع بياناتنا الشخصية، وهذا ما "اعتذر" فيسبوك عنه. ويمكن أن تتدخل في الانتخابات السياسية، الأمر الذي لا يزال في عهدة القضاء الأميركي.

عنونت مجلة لوبوان أحد مقالاتها في نيسان الماضي: "موظفو أمازون يستمعون لمحادثاتكم بواسطة ألكسا". وكان فيسبوك يختبر خاصية جديدة لتقديم محتوى إخباري حسب اهتمام المستخدم منذ العام 2017 ونجح في تطبيقه الآن بحيث يلاحظ المستخدم أن دائرة اتصالاته يحددها له ما يجد فيسبوك أنه ملائم. لقد تعدى عدد الذين يستخدمونه بانتظام عتبة المليارين. ويفوق عدد قاعدة المستخدمين عدد سكان أي دولة منفردة ويتجاوز سكان ست من القارات السبع. ويمثل أكثر من ربع سكان العالم البالغ عددهم 7 مليارات ونصف نسمة.

وهكذا صرنا نعيش في كوكب يخضع لرؤية وإرادات هؤلاء إذا لم تسارع الدول إلى ممارسة الرقابة ووضع قواعد وتشريعات لنشاطات هذه المجموعات. الأمر الذي لم يتوفر بعد، فعندما فرضت فرنسا ضريبة على غوغل بمليار و600 مليون أورو أثارت امتعاض ترامب وقال كلمته الشهيرة عن "غباء" ماكرون. لكن تم التوصل إلى اتفاق بعدها.

ما الذي تأمله بلادنا في هذا العالم المتغير وبعض شعوبنا تطالب بالعودة إلى 1500 عام مضت؟

يُنشر أيضاً على "الحرّة".

اقرأ للكاتبة: الغزو الرقمي... غرّد من برادك الذكي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم