الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

قابلية التجديد في الرمز الصوفيّ... محمد علي شمس الدين نموذجاً

خليل عاصي
قابلية التجديد في الرمز الصوفيّ... محمد علي شمس الدين نموذجاً
قابلية التجديد في الرمز الصوفيّ... محمد علي شمس الدين نموذجاً
A+ A-

لقد كتب كثيرون في الأدب الصوفي الذي باعتقادي ما زالت جلُّ كنوزه لم تكتشف بعد.

لن أتناول الصوفية من الجانب الاعتقادي المعروف والذي تدور حوله الكثير من الآراء بين معجب ومختلف ومكفّر. على الرغم من تقديمه الكثير من المخارج والحلول للتباينات التي لم يفلح المسلمون في إيجاد حل لها حتى الآن، وخصوصا لجهة التفاسير القرآنية وظواهر الكون والوجود.

إن ميزة المتصوف أنه، ظاهراً، يرى حكمة الباطن في الظاهر،  وباطنًا: يرى حكمةً من الباطنِ في الظاهر، وبالتالي فهو يستحوذ على حكمتين فيهما كمال. كما أن الصوفي يدأب جاهدًا أن يخيط قميص الحقيقة بإبرة فلسفية تستمد خيطانها من قلبه، وأن يُعيد صقل نفسه من جديد بعد تذويبها بالذات الإلهية على نار العشق. وأنه من انصهرت ذاتيته الجزئية بالمطلق الكليّ ومن ذابت فردانيته بعموم العام. وليس المقصود هنا الاندماج المادي - وان كان يحمل بذاته قابلية تحقق ذلك فيزيائيا - إنما الاندماج التعلّقي أو الحب الذي دونه مدارك ومدارج ومراتب روحية كثيرة، نقطة الصفر فيها التجرد من الحقد والضغينة والتخفف من الأنا الصغرى، ثم الإيغال في رحلة شيقة وشاقة في لجج العشق اللا متناهية بكل مراتب الوجود والتي تبدأ من الأدنى إلى الأعلى ثم من الأعلى في الأعلى ثم من الأعلى إلى الأدنى ثم من الأدنى في الأدنى حيث تكتمل دائرة الحب وتكتمل صورة الحقيقة.

لذلك، وإذا كانت هذه الخلفية الفكرية والاعتقادية هي الهيولى التي ينهل منها الصوفي ويستقي منها مسالكه في الحياة، ألا يكون التصوف مسرحا مثاليّا للإبداع والتجلي والشعر والأدب؟

أليس الاقتراب من الوجودات حدَّ التماهي معها هو أكثر ما يريده الشاعر ليبتدع قصيدته الفريدة؟

أليست أنسنة الأشياء ومخاطبة الأرواح في الجمادات تمثل الشعرية العليا فيما لو ارتدت تمظهرًا فنيًّا يليق بها؟

إنَّ فكرة الانصهار بالذات الإلهية الكبرى وربط الإنسان بها أعطت الصوفية اتساعا وحريةً فكريةً كان من الصعب على بعض المتصوفة تحمّلها فاختلَّتْ موازينهم العقدية، والأكيد أيضا أن تلقيها من العوام والناس كان أكثر صعوبة وامتناعًا فكفروهم وقتّلوهم. لذا، كان لا بدّ من اللجوء إلى الترميز والمصطلحات المؤولة والتورية التي تستبطن المعاني المتعددة أو إلى اجتراج دلالاتٍ خاصة لبعض المفردات مغايرةٍ للسائد المفهوم، بهدف التخفيف من ثقل ما يقولونه خوفًا من التكفير والقتل. ومن جديد، فقد أعطى ذلك بعدًا فنيًّا نقل الأدب العربي من الواقعية والفضاء المقفل إلى التأمل والتفكر والتدبر والفضاءات المفتوحة، فأُعْطيت المخيلة دور القيادة في ابتكار الدلالات والروابط التي تؤسس لمعجم فنيّ خاص. السؤال هنا؛ إن هذه الرموز جاءت لتواري المعنى خلف ستار الكلام المؤول في فترة صعبة، ولكنْ، ألم ينحسر ذلك الخطر بعد؟ إذا صح ذلك، أليس لتلك الرموز والمصطلحات من تاريخ انتهاء صلاحية ؟

لا شك بإنَّ تغيُّرَ الزمن يُحدث تغيرًا في كل تفاصيل الحياة ويفرض انزياحات جديدة في القشرة الفكرية للمرء وفي السلوك والتخاطب، بحيث يصبح ما كان مقبولا سابقا غير مقبول اليوم والعكس صحيح، فكيف يمكن إذاً أن نستخدم وعاءً قديما (من الألمنيوم مثلاً) على مائدة فارهة كلّ ما عليها من الكريستال؟

إذا كان الرمز قد أحدث ثورة فنية أدت إلى فتوحات على مستوى المعنى ألا يمكن لهذه الثورة أنْ تجدد نفسها عبر خلق رموز جديدة؟ ربما يكون التغرّب والابتعاد من الحالة الصوفية الإيمانية سببًا مهما من أسباب العقم عن توليد الرموز الجديدة ولكنّ الشاعر الحقيقي الذي يتلقى المفاهيم الجمالية حزمةً واحدة حينما يكون داخل الحالة الشعرية، لديه قابلية توليد الرموز التي تساهم في بناء معجم اصطلاحي صوفي جديد. هذا إذا أردنا الالتزام بهذا المنهج الفني دون غيره. ولكن، ألا يمكننا إيجاد منهج صوفي أدبي آخر غير مرتكز على المفردة الرمز؟

لماذا لا يكون النص رمزا أو الديوان رمزا مثلاً؟ ألا تمثل نصوص الشاعر محمد علي شمس الدين وحدة رمزية وصوفية لا تبني كياناتها اللغوية على الرمز المفردة وحده بل تتعداه إلى خلق فضاء رمزي صوفي خاص؟

أليس ما يميز تجربة شمس الدين، أنك لا تجد رمزا صوفيا مقحما في نصوصه بل لربما هي تخلو أحيانا من تلك الرموز، لكن اللعبة الفنية الداخلية والبواطن الدلالية للنص تجعلك على دربِ يقينٍ أن ما تقرأه هو عين الشعر الصوفي وجوهره؟

مثال:

"ينحني القلب على الوجه الجميل

ينحني حتى انكسارات الجسد

أنت أقفلت المدى قبل الرحيل

فافتح الباب قليلا يا ولد.

ينحني القلب على الوجه الجميل

كي يرى الموت يغطي ساعديك

أقفل الباب على نصف الرحيل

نصف عينيك وأطراف يديك". 

ألا تفتح لك هذه الأبيات نافذة أخرى على الأدب الصوفي المتحرر من قيد الرمز السائد إلى لغة صوفية حرة يضيق وعاء المفردة على حملها؟

لذلك، وبما أن الأدب يمثل انعكاسا لثقافة الشعوب وبالتالي للأديب أو الشاعر فإنه لمن البديهي أن يعكس الحالة الشعورية الصريحة المتغلغلة في النفس والمتعلقة بجدران الروح والمتشكلة من البيئات المتنوعة التي تتقاطع في ذات الشاعر والأديب، بمعنى آخر، أن كل ما يكتبه الشاعر أو الاديب من داخل هذه الحالة التي يحدها العشق من كل الجهات ومن ثقب معرفيّ متصلٍ بالمطلق كجزء من كُلّ، يكون صوفيا بامتياز وإنْ خلا من كل مصطلحات ورموز الصوفية التقليدية، وكل ما كتب من خارجها -أي من خارج الحالة- وحاز على جميع الشروط الفنية والاصطلاحية، فهو ليس من الصوفية في شيء.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم