الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

خمسة تحدّيات أمام تعزيز مكانة اللغة العربية: منهج لفهم الهوية والذات

خمسة تحدّيات أمام تعزيز مكانة اللغة العربية: منهج لفهم الهوية والذات
خمسة تحدّيات أمام تعزيز مكانة اللغة العربية: منهج لفهم الهوية والذات
A+ A-

تتنوع آراء الباحثين والمهتمين حول أسباب تراجع مكانة اللغة العربية في بيتها، واتساع رقعة استخدام اللغات الأجنبية بين أبناء الجيل الجديد على وجه التحديد. هناك من يقول إنها أزمة مرحلة، وهناك من يعتقد أنها أزمة لغة لا تستطيع مواكبة المستجدات العالمية، وهناك من يجزم أنها لا هذا ولا ذاك، بل هي أزمة جيل انسلخ عن ثقافته لصالح ثقافات أخرى.

مبادرة "لغتي" التي أطلقها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة بهدف تعليم اللغة العربية للأطفال والشباب بوسائل حديثة وجذابة، تطرح وعلى لسان مديرتها بدرية آل علي تصوراً آخر وأكثر عمليةً لمشكلة اللغة العربية، وتشير إلى أن هناك جملةً من التحديات التي يمكن تخطيها، تقف حاجزاً بين اللغة بكل تجلياتها من ناحية والجيل الجديد من ناحية أخرى.

وتقول آل علي: "إن الحديث عن أهمية سيادة اللغة العربية في بلدها وبين أهلها، لا يعني مقاطعة اللغات الأخرى وعدم تعلّمها، فهذا أمر غير ممكن وليس منطقياً في زمن العولمة وانفتاح الثقافات ونشأة جيل مدفوع بحب المعرفة والاستشكاف. نحن لا نريد للغات الأجنبية أن تلغي لغتنا العربية أو تشوّهها، ونريد أن تكون لنا بصمتنا الفريدة للتأثير في الثقافات الأخرى وليس التأثّر بها، والبصمة الفريدة تعني اللغة والثقافة والهوية بطبيعة الحال".

وتضيف: "إن أهمية اللغة تتجاوز كونها مجرد أداة للتواصل، بل هي منهج لفهم الذات والهوية من خلال فهم التاريخ والتراث. فلا يمكن فهم التاريخ إلا بالثقافة التي أنتجته، ولا يمكن تشرّب التراث إلا عبر اللغة التي رافقت مراحل تطوّره".

وتتابع: "الحفاظ على اللغة العربية وسيادتها يشكل شرطاً لاستكمال مسيرتنا الحضارية، فكيف للأمم أن تبني تجربتها الخاصة في المسرح والسينما والموسيقى، أو في الآداب والعلوم والفلسفة بدون حماية اللغة التي تشكل رابطاً ليس بين الأفراد والجماعات فقط، بل بين التاريخ بمراحله وبين الحاضر والمستقبل".

تحديات

وبحسب آل علي، هناك تحديات كثيرة في مواجهة مهمّة استعادة مكانة اللغة العربية والحفاظ عليها، وهي مهمّة لا تقع على عاتق جهة من دون أخرى، بل إن التنسيق إلى جانب الشراكة يشكّلان شرطاً لإنجاحها.

وفي مقدمة هذه التحديات تبرز العائلة بوصفها المعلم الأول للفرد وصانع لغته ووجدانه وثقافته. من دون قصد وبحسن نية، يلجأ الآباء والأمهات إلى مخاطبة أبنائهم باللغة الأجنبية معتقدين بذلك أنهم يجهّزون الأبناء للمستقبل الذي لا يفتح ذراعيه إلا لمن يتقن اللغة الأجنبية.

التحدي الأول: بين الاستعداد للوظيفة والاستعداد للحياة

هنا تبرز إشكالية كبيرة، وهي أن تفضيل اللغة الأجنبية من قبل الأهل يأتي في إطار الإعداد للوظيفة، بينما يأتي الاهتمام باللغة- الأم بالمقابل في سياق الإعداد للحياة وفهم ثقافة المجتمع وبناء علاقات ناجحة في سياقه، بل يعتبر شرطاً للنمو الوجداني والعقلي السليم بحيث تكون الثقافة المحلية نافذة لفهم الثقافات الأخرى وأداة لتحليلها والاستفادة منها. وتقول آل علي: "تعليم الأطفال اللغة الأجنبية يجب ألا يجعلهم متلقين سلبيين للثقافات الأخرى، في المقابل من المهم تعليمهم الحفاظ على الثقافة واللغة العربية التي تحفز لديهم الحس النقدي بحيث يصبحون قادرين على التمييز بين ما ينفعهم وما يضرّهم من الثقافات الأخرى".

وتضيف: "الكثير من الوظائف اليوم بأمسّ الحاجة إلى اللغة العربية السليمة وهي تشكل نسبة كبيرة من القطاعات الاقتصادية النامية مثل الإعلام والنشر والترجمة والسياسة والعمل في منظمات المجتمع المدني، حتى الشركات العالمية الكبرى تبحث عمن يتقن اللغة العربية لتسهيل مهمتها في مخاطبة جمهورها مثل غوغل ومايكروسفت وعلي بابا على سبيل المثال للحصر".

التحدي الثاني: المنهاج الدراسي بين الاستهلاك والإنتاج

إذا كانت العائلة مهد وجدان اللغة، فالمدرسة والجامعة تشكلان مهداً لقواعدها واحتراف تذوّق جماليتها. وعلى الرغم من هذه الوظيفة الجوهرية للمؤسسة الأكاديمية، إلا أن مساحة المناهج باللغة العربية في تراجع دائم ليحل محلها أخرى بلغات أجنبية، وتوضح بدرية آل علي أهمية استعادة مكانة اللغة العربية بين المناهج التعليمية بالقول: "الأكاديميون من مدرّسين وعاملين في قطاع المعارف يدركون أكثر منا أهمية اللغة - الأم لبناء جيل منتج ومبتكر يترك بصمته العلمية والإنتاجية على ساحة الفعل العالمي".

وتضيف: "لا تقتصر أهمية اللغة على تنشيط حركة المسرح والنقد والآداب والفلسفة فقط، أي العلوم ذات الارتباط العضوي باللغة، بل تبرز أهميتها أيضاً في تعريب العلوم الأخرى وتوطين التقنيات الحديثة، إلى جانب أن اللغة تشكل مدخلاً للإنتاج. هناك الكثير من الأمم التي نشرت ثقافتها ولغتها في العالم من خلال منتجاتها مثل ألمانيا والصين وفرنسا والولايات المتحدة، جميع هذه الدول تعتز بلغتها - الأم، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا الاعتزاز كان محفّزاً على نجاح تجربتها الاقتصادية العالمية، بينما من يستهلك لغة وثقافة غيره سيظل يستهلك منتجات لا يصنعها ولن يجد له مكاناً في مسيرة التطور والإنتاج العالمي".

التحدي الثالث: معايير اجتماعية خاطئة

ترافقت العولمة مع انتشار بعض المعايير الخاطئة في بعض المجتمعات، من نوع أن الحديث باللغة الأجنبية دلالة على التحضّر والرقيّ، وتعلق مديرة مبادرة لغتي على هذه الظاهرة بالقول: "إن هذه المعايير بعيدة كل البعد عن الحقيقة، وتفتقر إلى أدنى الشروط العلمية". وتشير إلى أن الحديث باللغة الأجنبية ليس دلالة على الرقي والتحضر كون هاتين الصفتين هما تجسيد للأخلاق والسلوك والمواقف الإنسانية ولا علاقة لهما بطريقة النطق أو اللغة أو إتقان لكنة أجنبية ما.

وتنوّه بدرية آل علي بأن أحد أهداف مبادرة لغتي هو تصحيح الكثير من المفاهيم السائدة التي أسست لسيادة اللغات الأجنبية وضعف التعامل باللغة العربية السليمة، وتؤكد أن اختلال معايير الحكم على الرقيّ والمكانة الاجتماعية تشكلان هاجساً كبيراً لكافة المهتمّين بالشأن العام، وتخشى في الوقت ذاته من غياب معايير المقاييس الاجتماعية الحقيقية مثل الصدق والأمانة والتعاون والإيجابية وغيرها من الموروث الحضاري العربي الأصيل.

التحدي الرابع: البعد عن الكتاب.. بعد عن اللغة

يشكل ضعف الإقبال على قراءة الكتب باللغة العربية على وجه التحديد مشكلةً، ليس على مستوى اللغة فقط بل على المستويات كافة، وفي مقدمتها المعرفة وتشكيل الوجدان والذائقة الفنية والحس النقدي. ترافق هذه الظاهرة زيادة في الإقبال على الكتب باللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية بين أوساط الشباب من خريجي الجامعات الأجنبية. ومن الملاحظ أيضاً أن الكتب الأجنبية الخفيفة والبعيدة عن التحليل أو الخالية من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية باتت هي السائدة تحت تأثير ثقافة تصفها بدرية آل علي بأنها ثقافة القراءة للمتعة وليس للاستفادة، أو القراءة من أجل الفائدة اللحظية والفردية والسريعة في آن.

وتقول آل علي: "إن دولة الإمارات العربية المتحدة تولي أهمية بالغة لتشجيع القراءة وتوفير الكتب وتنشيط حركة الإنتاج الأدبي والنشر. هناك مبادرات وجوائز عديدة أطلقتها الجهات المختصة للقراء والمبدعين، وتخصص الجهات الحكومية مساحة جهد واسعة لتوفير المكتبات وإثرائها بالكتب".

وتوضح آل علي أن تحقيق نتائج إيجابية من سياسات تشجيع القراءة، يحتاج إلى أن تمارس الجهات ذات التأثير في قطاع الشباب مهمتها التوجيهية والإرشادية لمساعدتهم على اختيار الكتب والمواضيع والعناوين التي يقرؤونها، على أن تكون الأولوية للكتب العربية وخاصةً تلك التي تسهم في تعميق المعرفة وتعزز القدرة على التحليل والنقد، وأن تكون للكتب العربية أيضاً الأولوية عند وضع سياسات دعم قطاع صناعة الكتاب وحضوره في الدولة بشكل عام.

التحدي الخامس: الإعلام الإلكتروني

يتحمّل الإعلام الإلكتروني جزءاً ليس قليلاً من التحديات التي تواجهها لغتنا العربية اليوم. عدد كبير جداً من المواقع من مختلف المصادر والتخصصات تحتل شاشات حواسيبنا وهواتفنا لتنقل إلينا أخباراً مختصرة أو مطولة تفتقر إلى أدنى معايير سلامة اللغة أو دقة المحتوى. وبسبب ابتعاد الجمهور تدريجياً عن مصادره الإعلامية التقليدية الموثوقة كالصحف والمجلات والتلفاز، باتت هذه المواقع هي المصدر شبه الوحيد للمعرفة والتعلم والتعرّف إلى اللغة.

وتختصر بدرية آل علي حل هذه المشكلة بالقول: "يجب أن تتعاون المؤسسات الأكاديمية والأسر والمنظمات الاجتماعية التي تحتضن الشباب على التوعية المكثفة بكيفية اختيار مصادر المعرفة وبناء علاقة متينة مع اللغة، فالمصادر غير الموثوقة للمعارف تشوه ليس فقط لغتنا العربية بل والحقائق أيضاً، وهذه مسألة يجب الوقوف عندها مطولاً لاجتراح حلول عملية وذات أثر".

وتختم آل علي كلامها بالقول: "تحتل اللغة العربية الترتيب الخامس بين اللغات الأساسية في العالم، لكن تحديات مختلفة أثرّت على مكانة لغتنا. إن فهم هذه التحديات يشكل مدخلاً لتجاوزها، وخير مكان نبدأ به هذه المهمة هو الطفولة. فلنغرس في وجدان أطفالنا وشبابنا حب اللغة العربية ولنعزز ثقتهم وفخرهم بها وبهويتهم وتاريخهم".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم