الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

لماذا لا نغادر؟\r\n

روجيه عوطة
A+ A-

إلى صديقي حسين أيوب
"سأهاجر"، تردد الطالبة الجامعية أمام أصدقائها في المقهى. هؤلاء، سرعان ما يتلقفون قرارها، وينسجون على منواله، فتدور جلستهم على دوافع الهجرة، وأسبابها الكثيرة. ولأن البلاد تشهد، الآن، كما على الدوام، أزمة متفرقة الأشكال، تتضاعف حدّة قرارهم الجمعي، الذي يتلونه بعبارة التشابه: "أنا أيضاً". فما إن تقول الطالبة إنها ستهاجر، حتى يعلن المحيطون بها، أنهم مثلها، يعقدون النية على مغادرة لبنان، من دون أي رغبة في الرجوع إليه.
يظن الأصدقاء أنهم اجتمعوا على قرارٍ مشترك، من المستحيل أن يحضر، بهذه العزيمة اللفظية، في يومياتهم. فالبلاد لا تسمح لهم بالإستقرار على رأي، أو على فعل متواصلين، ولا سيما حيال المقبل من أوقاتهم، التي يمضونها كما لو أنهم ينتظرون الطارئ على شؤونهم. لذا، حين يتلاقون، بعد هذا الإنفجار أو ذاك، ينتبهون إلى أن الحدث المفاجئ قد وقع، وقبل أن يعمدوا إلى مواصلة انتظارهم، يقررون ترك البلاد. في هذا الحين، بين الإنتظار والإنفجار، يأخذون كل القرارات الغائبة في يومياتهم، يأخذونها كلها بقرار واحد، أي المغادرة، التي تبدو أنها الفعل الوحيد الذي يتفقون عليه، وأنها تالياً، محرك اجتماعهم الأول والأخير.


النطق بالتوازن
المغادرة تعني الإجتماع في ظل الكارثة المتوزعة على أيامنا، وهي سرعان ما تتعطل، أو يتراجع نفاذها على إثر الروتين اليومي، الذي يسجل أول ظهور له في تكرار الكلام عن الهجرة بعدم ممارستها في الواقع. فعندما يتردد لفظ المبارحة في أحاديثنا، يشير ذلك إلى أنه أصبح جزءاً من عيشنا، الذي لا نتممه على أكمل وجه، ولا نتوقف عنه طبعاً، بل نجانبه، محاولين تدارك استفهاماته الملحة. نتفق على قرار المغادرة، لكننا لا ننفذه فعلياً، ليظل مجرد لفظ لا طائل منه، ولا جدوى من ترداده بسوى التحايل على أنفسنا.
غير أن القرار الشقي هذا، موضوعي بقدر ما هو ذاتي، أي أن المغادرة اللفظية ليست سائدة إثر أفعال شخصية فحسب، بل هي تؤلف، مع انعدامها في الواقع، سبيلاً عاماً إلى البقاء على ما سبقها من أحوال مأزومة. فهي، لأنها تظهر كقرار، وكمحرك إجتماعي، تبدو كأنها الصلة بين ترقب الخطر ووقوعه بغتةً. أي أنها تصون العلاقة بين الإنتظار والإنفجار. صحيح أن الطالبة الجامعية حين تعلن قرار هجرتها، تشعر أنها تحتاج إلى ترك البلاد، لكن، ما إن يصير قرارها لفظاً عاماً، حتى يضعف، ويندرج في سياق آخر، لا علاقة له بالرغبة التي انطوى عليها في البداية. فكما تمثل المغادرة القرارات غير المأخوذة قبلها، تدل أيضاً على المشترك المفقود، الذي يظهر فيها، كي يبقى على حاله. لا تؤدي عبارة "سأهاجر" سوى إلى تغييب القرار، وتقييد الإجتماع بمشترك لفظي، وغير واقعي. من هنا، لا تعود المغادرة قراراً، بل مجرد قول زائل بين طارئ وآخر. وهو، لأنه كذلك، من الممكن الاعتقاد أنه رغبة مقتولة بالتلفظ بها.
وعليه، ليست المغادرة، التي نأتي على تكرارها في أحاديثنا، قراراً، بل هي علامة الإنتقال من ترصد الخطر إلى وقوعه. وقد تكون، من هذه الناحية، علامة انتقال من الحرب الكامنة، أو بالأحرى غير المعلنة، إلى الحرب البائنة. لكنها لا تكتفي بالإشارة إلى هذا الإنتقال أو ذاك. فعلى إثرها، وإثر أفعال وسلوكيات أخرى، يعود الخطر إلى موقع المُداهم، وترجع الحرب إلى ضمورها. فحتى لو رددت الطالبة الجامعية عبارة "سأهاجر" على طول ساعات يومها، ستظل عالقة في هذا الإجتماع، الذي ألفه كلامها عن المغادرة، وستفقد بعد وقت قصير، ذكرى ما قالته أمام أصدقائها المشابهين لها. لكن، وبمعزل عن النطق بالمبارحة، الذي يبدو أنه عامل توازن بين الإنتظار والإنفجار، لماذا تستيقظ تلك الطالبة الجامعية في اليوم اللاحق على رغبتها في الهجرة، وتمضي وقتها مثلما كانت تفعل قبل وقوع الفجيعة؟ لماذا لا نغادر لبنان، خصوصاً أننا ندرك كارثته، التي تتنقل بواسطة السيارات المفخخة بين المناطق، والتي لا تلوح خاتمتها أمامنا؟


البقاء المخفف
بالإضافة إلى قلة الفرص المتاحة أمام الساكنين في لبنان للهجرة إلى خارجه، ثمة أسباب كثيرة تكبلهم، مانعةً إياهم من المغادرة ومن الإستقرار في الوقت نفسه. إذ لا تسمح لهم بسوى البقاء، بعده الركود، ومن ثم خوض الرتابة على أنماط متوازية، تشكل جميعها سلسلة متكاملة، تتضمن الهوية- العاهة، والآخر المعلق عليها، بالفضل من مؤسسة الثبات، وأعطاب العلاقة الإجتماعية، وصولا إلى نصَّي التكرار واللغو إلخ. مع العلم أن سلطات التكبيل هذه لا تبدو قاسيةً على رغم شدّتها. ذلك لأنها تنتج السائد، كما أن منافذ مقاومتها المألوفة هي منافذ معكوسة نحو نظامها.
فما إن يسلكها المرء حتى يعود إلى مكان الإنطلاق، وقد تكون المغادرة واحدة منها، بحيث أنها تتساوى مع البقاء، الذي تنقص طرق العيش في ظله، أو بالأحرى تتعطل. فالفارق حاضر بين أن يبقى المرء في لبنان، وأن يعيش فيه. ينطوي الفعل الأول، أي البقاء، على انعدامات الثاني، أي العيش، الذي يتسم بالتقطع. وهو، لهذا السبب بالذات، يظهر متخففاً من عنفه.
في هذا المطاف، يتحول البقاء إلى سلوك يومي، يعتمده المرء في كل شأن من شؤونه، التي يسعى إلى استبقائها، من دون الإستفهام عن تغييرها، أو ابتكار مخارج جديدة، لا تقود إلى البداية نفسها. فغالباً ما تُكرر "المشاكل الرسمية" ذاتها عند الدخول في المنافذ النمطية، إذ تجري المطالبة بالدولة، وترداد مقولة أن النظام غير موجود، بعد اختصاره بالنظام المؤسسي السياسي، ووصفه بـ"الطائفي". مع الإشارة إلى أن البقاء، وسلوكيات الإبقاء، لا يُمارس على مستوى السياسة فحسب، مثلما قد يصوِّره اليسار الكلاسيكي، بل هو حاضر في كل مضمار، أكان في اللغة، التي تنسف موضوعها كي توفر له معنى، أم في الإجتماع، حيث الصداقة داخله، التي من المفترض أنها فضاؤه الحر، هوياتياً على الأقل، تُعاش كأنها رابط أهلي، أو منزع عصبي. أما بالنسبة إلى العلاقة المجتمعية مع الغير، فهي أشبه بمسار تسلطي، ينتج المقبول والممنوع على أسس تقليدية لا تمثل الواقع، ولا حتى تحاكيه، بل تقمعه بغاية توليده لها.
تالياً، يتعرض الساكنون في البلاد إلى ضغط مستمر، يحاولون الإنسجام معه على الدوام، وتؤدي سلطات البقاء دورها في ذلك، من خلال تفريق وطأتها عليهم، والتظاهر بغيابها أمامهم. فبدل أن يواجهوها، يسألون عنها بإلحاح. في النتيجة، تصير الكارثة خفيفةً بالنسبة إليهم، فيواصلونها حتى يقع الإنفجار، الذي يسمعون دويّه، ويشاهدون خرابه. عندها، يباشرون الكلام عن المغادرة، التي لا تبلغ التنفيذ البتة. هنا، لا مناص من القول إن التخفيف هو بمثابة تمهيد للتفخيخ، الذي تؤلف سلوكيات الإبقاء موضوعه.


تحويل المأزق
تنفجر السيارة المفخخة في الممارسات اليومية قبل أن تنفجر في الطريق. لا تقدر على الوصول إلى هدفها الإرهابي من دون العبور في سُبل البقاء المفتوحة أمامها، فتصيب بانفجارها كل واحد من غير المغادرين، الذي يبقى في البلاد، إلى أن يصبح جثة محروقة، أو أشلاء مبعثرة. أحياناً، يبدو كأن الباقين في البلاد هم الذين يقودون السيارات المفخخة كي تنفجر بأجسادهم، التي يظهر كأنهم لا يحتكّون بها، ولا يشعرون برغباتها على أكمل وجه، سوى في لحظة اشتدادها، أي حين تتناثر لحماً وعظماً، وبعد أن يفوت الآوان.
لكننا لا نحرّك ساكناً، في بعض الأوقات، وحتى لو وقع التفجير، وشاهدنا الحطام، الذي خلّفه وراءه، وقمنا بمعاينة ضحاياه. هذه علامة أخرى على أن السيارات المفخخة والعبوات الناسفة تشكل عنصراً إضافياً الى سلوكياتنا، التي لا تصدّها او تعترضها. تفجير الهرمل، على سبيل المثال لا الحصر، لم يسجل أثراً في حضور اللبنانيين اليومي. هذا مرده الى "مركزية المأزق" بيروتياً، كما أن ما تسمّيه الأدبيات الإيديولوجية بـ"الرابط الوطني"، يدل في لبنان على تماسف (وضع مسافة) فظيع بين الجماعات أولاً، والكائنات الجماعاتية ثانياً. هذه الفرقة، تضاعفها السلطة الحزبية، الممثلة في "حزب الله"، بالنسبة إلى الهرمل. اذ تنطلق من المسافة الصراعية بين الجماعة الطائفية وآخرها، مبررةً سطوتها العامة، على كل تشكلات الإجتماع، أي على البلاد. من البديهي التذكير هنا، بأن الإنتماء الحزبي، أو الإيديولوجي العصبي، هو إحدى المنافذ التي تعوق المغادرة.
إلا أنه لا يمكن غض الحديث عن اللبنانيين الذين نجحوا في مغادرة لبنان، تاركين إياه للعالقين داخله، على الرغم من سلوكيات الإبقاء، التي تستحق التوقف عندها مطولاً كموضوع بذاته. يشكل المغادرون مصدر رزق البلاد، التي تحيا بفعل تحويلاتهم المالية. تالياً، لا يمكنها ان تتخلى عنهم. في هذا السياق، تصبح المغادرة الى الخارج عاملاً أساسيا للبقاء في الداخل، حيث تبلغ ممارسة الإبقاء ذروتها في اعلان الحرب عسكرياً، بعد خوضها تحضيرياً في الإجتماع.
من هذه الناحية، لا يسمح نظام التكبيل بالمغادرة سوى في حال كانت تركّزه اكثر. وهي بذلك تكشف عن مضمونها الآخر، أي البقاء. ربما لأن الإنقطاع النهائي غير وارد البتة بين الوصول الى لبنان، والخروج منه، يؤدي هذا الى انعدام مساعي الإستقرار في مكان ما، أكان داخلياً أم خارجياً. فالمرء في هذا البلد ليس عالقاً فحسب، بل هو معلق على "شفير" العيش، والكلام عنه. فالمغادرة الفعلية تنهي علاقتها مع البقاء، وتكافح سلوكياته، كاشفةً عن سبله ومخارجه الزائفة في الواقع المنسوف، والنص المكرر على السواء.
إذاً، لن تغادر الطالبة الجامعية إلاّ حين تتغير المبارحة موضوعاً للسلوك غير الإبقائي، لا للكلام المردد. اللغة في لبنان غالباً ما تعوق الفعل، الذي يغيب بالتأخير، والركود، وترقب مرئية الإنفجار أيضاً. بعد ذلك، هل كل ما سبق هو دعوة الى مغادرة البلاد؟ ربما. لكنه، قبل ذلك، توطئة سريعة للبحث في تقنيات المغادرة غير الرسمية. فلنتمرّن على مغادرة جديدة!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم