الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

جنبلاط والعروبة

المصدر: "النهار"
د. ميشال الشمّاعي
جنبلاط والعروبة
جنبلاط والعروبة
A+ A-

تناول الكاتب الروسي إيغور تيمو فييف في كتابه "كمال جنبلاط: الرجل والاسطورة" ترجمة الباحث "خيري الضامن" والصادر عن دار “النّهار” في العام 2000، قصة انتخابات 1957 التي جرت في نهاية عهد الرئيس كميل شمعون، حيث أسقط فيها قادة المعارضة المسلمة: جنبلاط، سلام، اليافي، الاسعد، فأعطت الخطوة المبرر السياسي للثورة في العام 1958 التي كادت أن تؤدّي الى انفجار الحرب الاهلية في ظلال الوحدة المصرية – السورية، وانتهت الى منع شمعون من تجديد ولايته للمرة الثانية.

وهذه الواقعة أتت بعد الهزيمة العربيّة في الحرب العربيّة – الاسرائيليّة الثانية 1956. وعاد كمال جنبلاط وحذّر الحكومة مراراً منذ بداية عام 1967 من الخطر الذي يتهدد لبنان، وأصر على ضرورة التجنيد الالزامي وتعبئة السكان وتدريبهم العسكري ونشر فصائل الدفاع المدني، وبناء الملاجئ والتحصينات على الحدود مع إسرائيل. وكان يرى أن من أولى المهمات البالغة الشأن تشكيل لواء خاص من الفلسطينيين الموجودين في لبنان حتى يقاتل ضمن الجيش اللبناني في حال اندلاع الحرب. وذلك إيمانًا منه بأنّ المسيحيين لم يعودوا قادرين على حمايتهم كدروز، لذلك لجأ إلى دعم الفلسطينيين. وليس في ذلك أيّ سرّ. فالدّروز هم أقليّة في لبنان والشرق وهم بحاجة إلى حماية دائمة. وعمرهم مع المسيحيّين تجاوز الثمانية قرون، والخلافات بينهم تكاد لا تحصيها أصابع اليد الواحدة. وفي ذلك مؤشّر بالغ الوضوح إلى أنّ هذين المكوّنين الحضاريّين هما الأكثر انسجامًا في الصّيغة الحضاريّة المكوّنة للبنان. وما المجازر التي حدثت إلا افتعال من القوى الأجنبيّة التي كانت محتلّة لبنان، سواء أكانت عثمانيّة أم سوريّة أم حتّى إسرائيليّة.

وعندما كانت بيروت الغربية تتظاهر بعنف تأييداً لعبد الناصر كتب جنبلاط افتتاحية "الأنباء" التي جاءت كأول رد فعل منه على الكارثة وعكست بكل دقة أمزجة الرأي العام العربي في تلك الأيام: "خسرنا معركة لم يكن بالإمكان عدم خسارتها لأن أميركا مدّت إسرائيل بالعتاد بينما السوفيات لم تكن مساعدتهم بالمستوى المطلوب". وبعد هذا الخطاب انهالت المساعدات السوفياتيّة على العرب، وتحديدًا لعبد النّاصر. وفي حديث استمر ساعة ونصف ساعة أكد السفير السوفياتي سروار عظيموف لجنبلاط أن موسكو مصمّمة على الحؤول دون تقويض النظامين التقدميين في مصر وسوريا، وأنها ستبذل الغالي والنفيس لاستعادة القدرة القتالية لقواتهما المسلحة بأسرع ما يمكن.

وفي حديث أدلى به إلى مجلة "روز اليوسف" في أثناء زيارته إلى القاهرة في تموز 1967 قال: "إن مصيبة العرب تكمن في الذهنية السحرية، ذهنية الكلام التي تمحض القول ثقة مبالغاً فيها حتى يقترن في أعماق الوعي بالفعل ويحلّ محله في غالب الأحيان". وتابع كمال جنبلاط دعمه للفلسطينيّين حتى توصّل مع القوى التقدّميّة العروبيّة إلى اتّفاق القاهرة الذي تمّ بوساطته تشريع العمل الفدائي من جنوب لبنان عام 1969.

هكذا كان كمال جنبلاط عروبيًّا تقدّميًّا على غيره من الزّعماء العرب. وبعد سقوط نظريّة دعم الفلسطينيّين للدروز ومقتل كمال جنبلاط. خاض الدّروز حروبهم بلحمهم الحيّ بعد تسلّم ابنه الزعامة الدّرزية. ومن أشرس الحروب التي عمل المحتلّون على تأجيجها تلك التي دارت رحاها في الجبل مع المسيحيّين. أمّا اليوم بعد سقوط المفاهيم العروبيّة على أثر الرّبيع العربي، وبعد تنامي الدّور المصري على أثر القبضة الحديديّة التي اعتمدها الرّئيس السيسي، فعاد جنبلاط الابن الدّولة المصريّة في محاولة منه لاستنهاض الدّور التقدمي العروبي.

لا سيّما وأنّه يستشعر بقدوم رياح الصّفقات الكوشنريّة التي بدأت تعصف بالمنطقة، لذلك توجّه إلى مصر لاستنهاض العروبة النّائمة. وهو المدرك تمامًا أنّه لن يستطيع الوقوف بوجه هذه العاصفة. ومدرك أيضًا أنّه فقد الغطاء اللّبناني من أيّ مجموعة حضاريّة قد يحتمي بها. فالمسيحيّون الذين يتّفق معهم أيديولوجيًّا يصارعون للبقاء في السلطة كي لا يشطبوا من معادلة الوجود في الدّولة. والسنّة المتمثّلون بتيّار رئيس الحكومة، هم أنفسهم غير قادرين على حماية ذاتهم. أمّا الشيعة فلا يجمعه بهم أيّ رابط تاريخيّ أو أيديولوجيّ لأنّهم انتقلوا من شيعة جبل عامل اللّبنانيّ الصرّف إلى شيعة بلاد فارس. وشتّان ما بين الثّرى والثريّا.

لذلك كلّه، توجّه جنبلاط إلى الخارج الاقليمي الذي يأمل أن يستعيد معه ما سلبته إيّاه إسرائيل بمخطّطات إسقاطها للتقدّمية العروبية الناجحة. فهل ينجح جنبلاط الابن بإسقاط المشروع الاسرائيلي الجديد حيث فشل جنبلاط الأب؟ وهل يستعيد العروبة التقدّمية التي أسقطتها خطط الاعتماد على القوى غير اللبنانية؟

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم