السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

كتاب - "هرّة سيكيريدا" لرشيد الضعيف \r\nالرواية مسكونة ببداياتها وفي محو السرد يكمن أسلوب الروائي

روجيه عوطة
A+ A-

للسرد في رواية رشيد الضعيف، "هرّة سيكيريدا" (دار الساقي)، نزوع إلى الإمحاء، وميل إلى التوقف. إذ يبدو كأن الراوي لا يباشر حكايةً معينة إلاّ كي يزيلها بواحدة أخرى، سرعان ما تتوقف، أو تختفي، تاركةً المكان لأحداث جديدة، وشخصيات مختلفة، كانت في الظل، قبل أن تتوجه العين نحوها.


لا تتدرج الرواية من عرضٍ إلى حبكة، ثم تفتش عن حل، فهي لا تبالي بهذه المراحل، أو بالتنقل بينها. همّها الأساسي هو فعل السرد، وكيفياته وأساليبه، التي تتبدل وتتردد على السواء، إلى درجة أنها تطمس شخصيات، وتحجب وقائع، وتتلف كلاماً، كان على أهبة الخروج، لكن حامليه وجدوا أن لا نفع من لفظه.
بالفعل، ليست الشخصيات ببعيدة عن النزوع إلى الإمحاء، بحيث أنها تظهر، مثل ساردها، تسعى إلى اللامرئية، أو إلى أخذ إجازة من تأدية أدوارها، وتسليمها إلى أطراف آخرين. أديبة، على سبيل المثال، تتوارى أحياناً، لتحل "خادمتها" سيكيريدا مكانها، وقد أعانتها في فعلها ذاك، الهرة ديماتي التي وصلت تائهةً إلى الرواية، وكانت سبباً للتقارب بين الشخصيتين. في هذه الجهة، من الممكن الإشارة إلى قوة الزائل، الذي يترك آثاره على سير الأحداث، دافعاً إياها إلى التقطع، ما يشكل تحدياً أمام القراءة، التي تعتاد التمحور حول عقدة محددة، غير أنها، على إثر التفرق السردي، تبحث عن روابط، وصلات، من الممكن جمعها، لأخذ الرواية إلى خاتمة تناسبها.
الرابط بين حدثين، هو، بالنسبة إلى الراوي، بمثابة منفذ كي يخرج من واقعة إلى أخرى، ومن أجل إبقاء معادلته السردية. أي أن العابر أقوى من الثابت، والمتباعد أكثر تأثيراً من المتماسك. فحين يخرج رضوان، إبن سيكيريدا، و"وليد الصدفة"، من الحمّام، ليخبر أديبة بأن الشبّاك قد سقط إلى الفسحة الخارجية، تتلقف الأخيرة الحادثة، وتحاول إخفاءها بطمأنة رضوان أولاً، وبوضع الشبّاك الصغير، الذي نزل على رأس أحد العمال وقتله، داخل كيس أسود. في النتيجة، تزيل أديبة الحادثة بسحبها من واقعة أخرى، أي الجريمة، وهذا ما يشير إليه غياب بقع الدم عن الشبّاك: "كان حول الرأس دم غزير، لكنّ الشبّاك الصغير نفسه لم يكن عليه نقطة دم واحدة. انحنت أديبة بسرعة لترى ما إذا كان العامل لا يزال حيّاً، لكنّها لم تتأكد من شيء، فتناولت الشبّاك ووضعته في الكيس ورمت الكيس في مكبّ الزبالة وعادت إلى شقتها تنتظر من دون أن يراها أحد".
إذاً، تختفي الحادثة في أحد الأكياس السوداء، الذي من الضروري أن يكون مصيره مجهولاً، كي يستمر السرد على حال الإمحاء. إلا أن الحدث المخفي يعود من جديد، عندما تسترجعه أديبة في نهاية القصة، وتكشف لأمّ أمل عن تسجيلها شقتها باسم العامل المقتول بالشبّاك، عماد الفاروكي. كما لو أن الكيس، الذي يحوي الشبّاك، يتحول إلى ظرفٍ، يتضمن سند الملكية: "سجّلت سرّاً عن أولادي شقتي هذه بإسم زوجة القتيل، على أن أبقى فيها طالما أنا حية. ووضعت سند الملكية في هذا الظرف. خذيه وأعطيها إياه بعد وفاتي".
هنا، لا بد من القول إن الحادثة لا تمحي كي تعود بالتقطع أو التفرق فحسب، بل أنها معرضة للزوال نتيجة رغبة الراوي في تخطي الأوقات السردية، وأخذ الشخصيات إلى أحوال غير متوقعة، تماماً، كما جرى بالنسبة إلى أمل، التي أخبرت أمها بأنها حامل، فكان لافتاً أن الوالدة لم تغضب أو تعاقب إبنتها، مثلما هي العادة تقليدياً، بل تقبلت الحدث، حتى بدت كأنها لا ترغب في إدراك الطرف الآخر، الذي مارست أمل الجنس معه، أي رضوان: "- لم تسأليني مع من؟ لا يهمّ! قالت لها الوالدة". لكن أمل لم تستطع الإنتظار، أرادت أن تريح نفسها بالبوح بكامل الحقيقة. "قالت لها: مع رضوان. فهزّت الوالدة برأسها كأنما أرادت أن تقول: ok عُلِم".
في السياق عينه، لا يرتكز الراوي، في قفزه فوق الوقائع، على قدرته السردية فحسب، بل يستعين بالحدث العام داخل الرواية، أي الحرب، التي تزيل بدورها كل القصص الصغيرة، وتُنسي الناس تفاصيل حياتهم المجتمعية، التي لا تتعلق بأمنهم وغذائهم ومعيشتهم. فـ"الناس في هذه الظروف تقلب الصفحات بسرعة. تتناسى أو تنسى أو تؤجّل، ولا تركّز إلا على الحاضر والمستقبل الملتصق بالحاضر مباشرةً". كل الأحداث التي جرت قبل هذه العبارة الختامية، تتعرض للإمحاء، ولا سيما أنها تحمل نزوعاً إليه، أكان من خلال التجزؤ، أم التكرار. هذا الأخير، يظهر من خلال عنصرين مذكورين في قصتي حبل سيكيريدا وأمل، أي شخصيتي الشيخ قاسم وأبو ابرهيم من جهة، وسيارة الفولسفاكن من جهة ثانية.
في الأحوال كلها، تبدو أحداث الرواية كأنها مسكونة بنهاياتها، أو كأنها كُتبت نتيجة ضجر سردي، إذ تبدأ بالتأثير ومن ثم تتقاعد سريعاً عنه، ولا تبالي في مواصلته، أو العكس. في هذا المسار، يكمن أسلوب رشيد الضعيف، الذي يصور هرة سيكيريدا التائهة، ويعنون بها، فيدفع إلى البحث عنها، ولا يهمّ إن وجدناها أم لا، ليس لأن الرواية تشهد حرباً، بل لأن زوالها هو القصة بذاتها.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم