الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

لبنان التعدّدية يرفض الاحتلال الفكري

المصدر: "النهار"
حليمة قعقور- أستاذة جامعية وناشطة
لبنان التعدّدية يرفض الاحتلال الفكري
لبنان التعدّدية يرفض الاحتلال الفكري
A+ A-

حرية التعبير ليست مجرّد مادة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 19)، أو في العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية 1966 (المادة 19)، أو في الدستور اللبناني، بُعدها الإنساني والطبيعي هو أساس بُعدها القانوني، لأن حماية حرية تعبير أي إنسان هي بمثابة حماية إنسانيته. لا يمكن أن تكتمل إنسايتنا من دون الدفاع عن حرية الآخر المختلف بفكره، برأيه، أو دينه. في هذه الحالة الأخيرة نرتقي إلى إنسان والكيان السياسي يرتقي إلى دولة حديثة. بمعنى آخر، تكتمل كرامتنا عندما نرتقي من مناقشة مضمون الرأي لنحكم على إعطائه الحق في التعبير إلى حماية هذه الحرية بحد ذاتها حتى لو كان المضمون لا يتناسب مع قناعاتنا أو رأينا.

تزيد أهمية حرية التعبير في مجتمع متعدّد لتكون ضمانة هذا التعدّد وضمانة وجود "عيش مشترك" حقيقي ليس بالمعنى التي أعطته أحزاب السلطة له والذي ينحصر "بالمحاصصة الطائفية" التي تهدّد التنوع وتضرب عملية السلم والأمن. هذا "العيش المشترك" بالمعنى السياسي اللبناني يقمع كل رأي وفكر ومعتقد خارج المنظومة السياسية الطائفية الموجودة في الحكم، وتحوّل هذه التعدّدية إلى مجموعات تستعمل كمتاريس لحماية حصة، ولكن ليست حصة كل طائفة كما يدّعون، بل كل جزء من الطائفة الذي يرضى ويدافع عن المنظومة مقابل جزء صغير من هذه الخوّات. نعم هي خوّة تؤخذ بقوة السلاح أو النفوذ وليس حق يؤخذ بقوة القانون.

إذا من يُحرم من حرية التعبير في هذه المنظومة السياسية؟ هم من لا يعترفون بهذه المنظومة الطائفية بكاملها ببعدها السياسي، أو بالملحدين الذين لا يؤمنون بأديان أو طوائف بالمنحى الديني ويقومون بالاعتراف بها علناً. أي هناك الكثير من الملحدين الفعليين الذين يرتدون ثوب الطائفة للحصول على حمايتها ومكتسباتها بمقابل الدفاع عن المنظومة. إذا الخوف الحقيقي التي تشعر به هذه المنظومة الهشّة الجبانة ليس فعلاً الإلحاد أو الإساءة إلى الأديان، بل تخيفها الأصوات اللاطائفية والتي تتجرأ على إعلانها في المساحة العامة التي تعتبرها المنظومة ملكها وتحت سيطرتها وليس ملك الجميع بتعدّد انتماءاتهم.

هؤلاء الذين يتجرأون بانتقاد الطوائف وإعلانهم علناً عدم انتمائهم لها هم أصلاً غير مؤهلين قانوناً للتمتع بالمراكز والوظائف، حيث جاءت النصوص القانونية لتحصر المناصفة بين الدين المسيحي والمسلم وبين الطوائف في ما بينهم، وتمّ استبعاد "غير المؤمنين" من هذه الحصص (الفئة الأولى في النص وكل الفئات في العرف). أي من يشطب طائفته كيف له أن يكون في موقع فئة أولى قانوناً؟ كيف له أن يكون بأي فئة كانت أصلاً إذا لم يعلن ولاءه السياسي لتلك المنظومة؟

حرية التعبير ليست فقط وسيلة للمطالبة بكافة الحقوق وشرطاً للديمقراطية، بل شرطاً للتنمية والسلام والعدالة الإجتماعية. هذه الأخيرة تشترط المساواة في الحقوق السياسية والتي تتطلب تحويل حرية التعبير من شكلها الثقافي لتتمأسس في المساحة العامة. هذا ما أكده أيضاً أيريس يونغ "Iris Young" الذي اشترط لتحقيق المساواة الاجتماعية والثقافية بين المجموعات والأفراد بالتعبير عن اختلافهم وخصوصيتهم، وأن تكون معترفة فيها في المساحة العامة وفي النظام السياسي. من الناحية الأخرى، إن التعبير عن التناقض الموجود في مجتمع متعدّد والتعبير عن الاختلاف هو جزء من الالتزام السياسي والمشاركة الفعالة في المجتمع، وبالتالي شرط للمواطنة وتعزيز الديمقراطية.

إن حرية التعبير طبعاً ليست مطلقة وحدودها يضعها القانون من أجل حماية باقي الحقوق وليس من أجل حماية المنظومة السياسية، بل لتعزيز مساءلتها ومحاسبتها. ليس لأي شخص أن يقول "لا يحق لك أن تقول هذا أو هذا" إذا لم يعجبك المضمون أو شعرت بالإهانة، للقانون وحده أن يحكم وليس شخص أو مجموعة، مع ضرورة إصلاحات قانونية داخلية تراعي معايير القانون الدولي. "إن الحرية ليس لها معنى إلا عندما يكون لنا الحق أن نقول للآخر ما لا يريد أن يسمعه"، يقول جورج أورويل "Georges Orwell".

غالباً ما تهدّد حرية التعبير باسم "الأخلاق" أو "عادات المجتمع"، وهنا تكمن الخطورة، لأن الأخلاق نسبية وتختلف من ثقافة إلى أخرى ومن مجموعة إلى أخرى داخل المجتمع، خاصة مجتمع متعدّد في لبنان. مع الإضافة أنه يمكن لعمل أن يكون غير أخلاقي ولكن قانوني والعكس صحيح. أما "عادات المجتمع" التي تحرم حق الفرد بالاختلاف عن المجتمع أو الأغلبية هي مرفوضة كمبرّر لخرق حرية التعبير التي جاءت فردية لتحمي الفرد ضد قمع الجماعة ولا يجوز أن نضفي إلى الموروثات الثقافية والعادات صفة القداسة وعدم المسّ بها، بل حرية الإنسان مقدّسة وكذلك حقوقه وكرامته. لذا أوقفوا احتلالكم الفكري وقمعكم المزري لأن لبنان بلد التعدّدية وستبقى الحرية عنوانه.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم