الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

كان ينبغي لي أن أكون انساناً آخر

المصدر: "النهار"
محمد شرف
كان ينبغي لي أن أكون انساناً آخر
كان ينبغي لي أن أكون انساناً آخر
A+ A-

في حياتنا الباقية نحارب اليأس، والنشاز، والقهر الذي يطاولنا، من قريب أو من بعيد، ونحارب النسيان أيضاً، ولو بأسلحة صدئة. النسيان نعمة ونقمة في آن واحد. لكن الليل، هذا الجزء الجميل من دورة الحياة، القاتم والمخيف أيضاً، يقف عقبة في وجه الأشياء. ضوء النهار ملهاة ومسرح، وخشبة يقف على صفحتها ممثلّون من كل الأجناس: حقيقيون، زائفون، صانعو أخبار، مرتكبو مجازر، سياسيون منافقون، عمّال بسطاء. ينام الجميع ليلاً، أو يكادون، وتستيقظ الحواس صانعة السدود أمام النسيان.

أجساد تعانق أجساداً. سرائر متخمة بالجنس، وأخرى تفيض بالهزائم. قطط تتقاتل على المزابل، وكلاب تساند كلاباً أو تسعى إلى افتراسها. مهمّات من الصعب أداؤها في الضوء. الليل مسرح من نوع آخر لا يُرى على خشبته الممثلّون بل تُسمَع أصواتهم.

قنديلان ينتصبان من حولي. هديّة مزاجيّة من قصّة مبتورة. نقلتُ أحدهما إلى غرفة أخرى، فعاد إليّ مبتسماً بخبث. خفت أن أضعهما ضمن مكان مقفل، إذ قد يرد في ذهنهما أن يخرجا إليّ ليلاً. شبحان بالثياب الحرير البيض يوقظانني من نوم لا يشبه النوم. نوم تخترقه قرقعات لا أعرف مصدرها، أحلام تختلط بأحلام، نسج من وقائع يلج إلى المخيّلة ثم يتسلل منها، جثة رمادية لملك أشوري، هواجس مطفأة العينين تستلقي قربي.

حين أجلس، لا أبقى طويلاً في المكان نفسه. أتنقّل بين الأمكنة كمن يتنقّل تحت شمس حارقة بحثاً عن شجرة أو جدار. أنظر إلى جهات عدة، مرّة واحدة. تصوّرت نفسي تنّيناً برؤوس متعددة، محارباً بأيدٍ عدّة تحمل كل منها نصلاً في مواجهة الملل. كنت أودّ ألاّ أحارب الملل بمفردي. هذا عدوّ قوي، جبّار ومحنّك، يمتلك قدرة تفوق قدرتي على التصدّي له. دلفتُ إلى غرفة أخرى، إلى حديقة أخرى، إلى شارع آخر، بلا جدوى. كان كدّس من الحنكة أكواماً، بحيث نصب خيامه في كل مكان، بل كان عارفاً مسبقاً بالأماكن التي اعتدت ارتيادها. أرتاد الأماكن نفسها لا حباً بها، بل لأنها الزوايا الوحيدة الأقل ثقلاً في مدينة ترزح تحت أوزان العاديات.

أزجي ذهابي إلى تلك الزاوية كي لا يتطابق زمن اليوم مع زمن البارحة. أفضل ما في الأمر أن تلك الزاوية تحوّلت مكاناً للقراءة. قراءة الكتب ولغة الأشجار وهمس الهواء ورسائل نصيّة أو صوتيّة على الهاتف لم تعد تصلني منذ شهرين. كان ثمة استراحات أذهب خلالها إلى ضفة أخرى، لم تعد موجودة. صوت يأتي من بعيد، رطباً بالماء المنسال بين كلمتين، يزيح عنّي بعض جفاف الوجود، ويطلق شبقاً في الهواء تتلقّفه فراشتان تزرعان الهواء دوراناً، ترتفعان وتنخفضان على وقع ارتجاف الأحاسيس. كتبتُ اليوم عشرة أسطر، وسأكتبُ غداً عشرين إذا ما مالت الشمس نحو مغيبٍ فيه احمرار الأوردة، ونبض الشرايين المشبعة بالتبغ وبلذة إنتظار اللقاء. صوت سيّارة يقودها كائن أرعن تقطع موجات الصمت المتخيّل. ضحكات المراهقين المسعورة بعد سماع نكتة سمجة، وزعيق الأولاد الشياطين المدوّي في الهواء. خليقة لا تمتلك ناصية الحزن النبيل. الهدوء حلقة مفقودة في هذا المكان وفي الأمكنة كلّها.

كنت جالساً على الكرسي نفسه، وربما إلى الطاولة نفسها. أتعرّف على الطاولة من خلال ثقوب أحدثتها سجائر العابثين على صفحتها البلاستيكيّة. ليس هناك خيارات كثيرة للجلوس في هذا المكان. الكراسي قليلة، والطاولات أقلَ عدداً منها. علينا أن نتناسى الروتين. لو شئنا محاربته لامتنعنا عن الطعام والنوم، والذهاب إلى المرحاض، ولمارسنا الحب على شجرة. علينا أن نصنع التوازن عندما تتوافر معطياته، لا أن نستسلم أمام كلمة لم تُقَل في محلّها، أو حركة لم تلق استحساناً. تلك أجسادنا، أو ما بقي منها، بعدما استهلك الزمن بعضاً من مفاخرها. وتلك وجوهنا التي قد تصبح أكثر جمالاً إذا ما وقع عليها ضوء وردي. قد تتبدّل معالمها، أيضاً، لو قُيِّض لنا أن نضحك أكثر، لكننا فقدنا ملكة الضحك. استأثر بها المراهقون المذكورون، وصارت حكراً عليهم. لا نملك الآن غير هذه الأجساد التي، على هزالتها، ما زالت تقاوم. كان عليّ أن أستخدم لغة المفرد، لا صفة الجماعة. كان عليّ أن أكون إنساناً آخر...

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم