الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

المرأة التي ستنفق على شغفي

نبيل مملوك
المرأة التي ستنفق على شغفي
المرأة التي ستنفق على شغفي
A+ A-

هي المرأة الوحيدة التي كانت تسأل عني ولم ألتفت لوهجها، هي الكائن الوحيد الذي لاحقني في الكتب والقصائد والشوارع وعلى منعطفات الشعور. لمجرد التحديق في هذا السراب، كنت أسأل نفسي لمَ أكتب عن السمراوات؟ لمَ يصبحُ خيالي صبيّاً مرميًّا في هذا البئر الداكن الجاف؟!

لم أفكرْ في أن أعانقها، لهذا اعتمدتُ سياسة التلميح علني أقلها أفصح أو أنطق رافضًا لوجودها. نعم، أحيانًا كنت أجاهر أنني لم أقابلها هي والكثيرات، وكانوا يسخرون مني معتبرين أنّي أرفض الجسم المجاني، الروح المتاحة للجميع، وائدًا وجودي في عدم المستحيلات، لكنها أتت أخيرًا بحلّ لا أعرف إن كان سببه تنازلاً مني أم منها، أو تسوية بين رجولة قيد النمو وأنوثة فذّة، استعانت بامرأة هي زميلتي في مكان عملي كي تقنعني أنها تستحق أن أتذوقها، أن أتنشقها بهدوء، أن أطالع مسامها، قائلة لي: "ألا يكفي أن ثمن شهوتي ١٠٠٠ ليرة لن تدفعها حين تتقاسمني وزملاءك؟!".

لا أعلم كيف امتنعتُ بثقة حين سألتني غادة: "بتشرب قهوة معنا؟"، وبثقة أكبر ونبرة حاسمة عزفتُ عن تراجعي مانحًا المرأة السمراء الجبارة فرصة للتواصل معي بشكل واضح وصريح.

فنجان صغير من أصل خمسة فناجين خبّأت نفسها في ظلاله، كان بئرًا يمزق قمصان جهلي، كان يثير نزوة التحدي عندي، حين أمسكتُ جيداً فنجاني ورشفت أول دمعة علقت على خد أنثى تحاول منذ ١٨ عاماً أن تعلمني لغتها، أحسست بنكهة العتب النابعة من فؤادها، بالمرارة الشبيهة بتجاربي مع نساء من لحم ودم لا من نبات، وكأنها استحضرت في هذا الفنجان البسيط حقد حقول البنّ جميعها على مزارع تركها في وحدة قاتلة وعزلة غير ملهمة. كانت المرارة تتراقص كالعلقم في مخيلة الجاهليّين، الغرض من رسالتها أكبر من ابتلاع بل خلود وتذكير وإصرار على مرافقتي كشاعر أو قارئ كما بدأت جوليا بطرس ومحمود درويش ومارسيل خليفة مرافقتي بعد أن أخذ كلٌّ من شيرين عبد الوهاب ونزار قباني وفضل شاكر فرصة تعادل إجازة المرأة المتنحية في هذه الأيام عن خيالي.

أما الرشفة الثانية كانت رشفة ملهمة، دفعتني لإعلاني دون مقدمات عن زواج بين ثغري ومذاق روحها، ما دفع الأصدقاء إلى ترك جدولة أيامنا وأيامهم الصعبة في بلد لا مذاق لتراثه ولا لون لحاضره، إلى مساءلتي عن شعوري بعد رحلة الاستكشاف العبثية.

بعد هذا العراك الطويل، أدركتُ أن مقدمة أغنية "الأماكن" لمحمد عبده كانت شارة تعيدني إلى عجن المرأة بأسلوب مختلف، المرأة التي وهبت نفسها منذ 22 عاماً أقلها لترافقني كأسيرة في فنجان، القهوة صاخبة الهدوء، تأشيرة للتواصل المرّ بين الذات والحاضر، أسيرة ستفقد عذريتها كل يومٍ لتنفق على شغفي.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم