لا أجدُ كلاماً غيرَ هذا..
لا أجدُ أيَّ خرقةٍ لأشدَّ بها ذراعَ الصباحِ الملدوغةَ...
أنزعُ ذاكرتي، أُمزِّق منها شريطاً طويلاً، ثمَّ أضغطُ بهِ بجرأةٍ، ربَّما يُفيد...
.....
قلتُ: سأمضي يوماً. فعلتُ هذا، ومضيتُ بعيداً..
ليس إلا الطيورُ التي تنبشُ الحشائشَ اليابسةَ خلفَ خطواتي..
حقولٌ لم تُفلح منذ سنواتٍ، حصى ساقيةٍ مدفونةٍ بين ضلوعها،
وشمسٌ تُحرق رؤوسَ الفراخِ الصغيرة التي تنتظر..
.....
تذكرَّتُ حلمَ الليلة الماضية : برادٌ صغيرٌ، كزنزانةٍ،بأقفالٍ كبيرةٍ..
حشروني فيه مع آخرين لا أعرفهم، كنَّا مكدَّسين كالجثث المُزرقَّة، نئنُّ ونختلج..
وقبل أن أستيقظَ بقليلٍ، رأيتُني أضربُ جدرانَها بمطرقةٍ كبيرةٍ من الخارج، وأُحدِّث آخرين
بأني كنتُ فيما مضى مقيداً ومحشوراً فيها مع غيرهم...
.....
منذ متى ـ إلى أين أمضي...؟!!
ليس خلفي سوى الطيورِ المضطربة، صفعاتِ ريحٍ محمَّلةٍ بالقشِّ والأتربة،
وصباحٍ يتعرَّقُ محموماً من لدغةٍ قاتلة ..
تذكرَّتُ أني غامرتُ، في رحلةٍ مشابهةٍ، مِن قبل..
انتهتْ بي في مكانٍ كنتُ أزورُ عندَهُ صديقي..
صديقي الذي فتكتْ به اللوكيميا خلالَ الأسابيعِ الثلاثة الأولى من اكتشافها.
وقد حفرتُ اسمَهُ وتاريخَ موته على شاهدةِ قبرهِ بأصابعي هذه..
أصابعي تيبَّست، فروعُ شجرةٍ تصمَّغتْ، وانتفختْ فوق لحائها الدَّماملُ..
......
كنتُ أقول: الصباح... أقول ما أشتهي أن يكون..
الصباح..!! إذنْ، ما هذا السَّديمُ المُعتِم الذي امتدَّ أمامي..؟!!
تذكرَّتُ ثوبَ نومكِ الأسودَ الشفَّاف.. وقد خدَّر الكحولُ ارتباكنَا..
كنت أُدلِّكُ النجومَ تحتهُ، فتشعُّ..
أتنفَّس زفراتِ سمائكِ الساخنةِ، وأتفقَّد عينيكِ..
أرى جفنيكِ يُطبقان كلَّما ضيَّعتُ نجمةً ووجدتها....
أتشتاقين إليَّ ، بعدَ أن تهتُ في مساراتٍ جديدةٍ، لأخريات.. ؟
وقد كنَّ يسألنني، واحدةً إثر واحدةٍ ، في كلِّ مرَّةٍ، مع كلِّ إطباقة جفنٍ :
عمَّ تبحث فوق جسدي، هل أضعتَ شيئاً أيُّها الأحمق... وتضحكْ.. ؟
وأنتِ، أتضحكين الآن من حماقاتِ غيري الجديدة، أتشتاقين إليَّ بعد هذا...؟!!
.....
الثامن والعشرون من أيار.. مازلتُ أمضي..
الشمسُ حاميةٌ، لكنني أرتجفُ من البرد..
فُتح البابُ فجأةً.. سمعتُ اسمي، حملتُ حذائي،
وأخذتُ أعبر مسرعاً بين أجسادٍ تتكدَّس،
وخلفي الطيورُ نفسها، تنبشُ الأملَ، بقاياه،
مِن تحت قشٍ يتكسَّر، من بين عيونٍ تتوسَّل...
تذكَّرتُ هذا للتوِّ أيضا ..
الآن فهمتُ لماذا أحمل حذائي..
مع أنَّ قدميَّ متورِّمتان وتنزفانِ، لكنَّني أحملهُ دائماً،
هذه المتلازمة مؤلمةٌ يا حبيبتي، لكنها تُريحني..
ألتفتُ للمرَّة الأخيرة، باحثاً عن أحدهم ـ في البرَّاد خلفي ـ فلا أجدهُ..
عن الشخصُ الذي كان يُحفِّظني رقمَ هاتفِ أهله، لأخبرهم بمكانه..
سأطلب منه، لو لمحتُهُ في التفاتةٍ ما، أن يسامحني،
لقد نسيتُ الرقمَ، لكنني أحفظُ ما ينبغي أن أقول ...
أحفظهُ جيداً...
.....
ابتعدْ أكثر.. لا تعُدْ، قلتُ لنفسي، لا تكرِّر المغامرةَ بدوافعَ مماثلةٍ..
لا تجعلْ لرحلتكَ الجديدةِ أسباباً واضحةً،
لا تتركْ لنفسك فرصةً للتبرير، لا تلتفتْ، امضِ بعيداً،...
امـضِ وحسب...
حيثُ صوتها يرنُّ كأجراس المراعي المنسيَّة في هذه الفيافي القاحلة..
حيثُ عنقها كُمٌّ مبللةٌ بالخمر..
حيثُ الآخرون لا يملكونَ أجنحةً،
فقط يحملون أحذيتَهم، ويركضونَ مثلي، نحو حريتهم...