في اليوم العالمي للصحة النفسية... نحن لسنا بخير!

صدمات متتالية اختبرها اللبنانيون منذ سنين طويلة وحتى يومنا هذا، ذكريات وفصول الحرب التي رسخت في أذهاننا بقيت في اللاوعي نتناقلها من جيل إلى جيل بطريقة أو بHخرى. المصالحة مع هذه الصدمات ليست بالمهمة السهلة، الخوف والقلق، مشاهد تتكرر أمامنا، يصعب التخلّص من كل التجارب القاسية التي مررنا بها، ومع ذلك يُشهد للبناني صموده وحبه للحياة ونهوضه من جديد. آخر فصول القساوة كان انفجار بيروت والفاجعة التي عصفت بالآلاف، عادت الحرب إلى الذاكرة ومعها عادت ذكريات كنا نظن أننا دفناها منذ زمن. كيف يتصالح اللبناني مع الصدمات وكيف يمكن الخروج من دوامة اضطراب ما بعد الصدمة والمصالحة مع هذه الفاجعة؟
في هذه السطور مقابلة مع الطبيب النفسي في جامعة ستنافورد الأميركية وجامعة Berkeley ومؤلف كتب البرفيسور الياس أبو جودة.

* مرّ اللبنانيون بصدمات عديدة ابتداءً من الحرب الأهلية مروراً بالحروب الاسرائيلية والوصاية... وصولاً إلى انفجار بيروت، كيف يقيّم الطب النفسي تداعيات هذه الصدمات على الشعب اللبناني؟

يعتبر لبنان بمثابة حقل تجارب في السياسة والاقتصاد وكذلك في علم النفس. لم يمرّ شعب آخر بالظروف الصعبة التي مرّ بها الشعب اللبناني وما عايشه من فظائع ابتداءً من حرب الفنادق وحرب التحرير وحرب الإلغاء والاجتياح وصولاً إلى انفجار بيروت في 4 آب لم يعايشه أي شعب آخر. وإذا أردنا فهم اضطرابات ما بعد الصدمة يمكن عادة النظر إلى الأبحاث التي أجريت، لكن هذه الأبحاث لا تُشبه وضع لبنان من ناحية الفظاعة والتراكمات.
أبحاث كثيرة أجريت بعد حرب فيتنام وبعد حرب الخليج مثلاً، ولكن ظروف اجراء هذه الأبحاث أسهل بكثير مقارنة بالوضع في لبنان.
تختلف الصدمات بين شعب وآخر إذاً، ولكن ما مرّ به الشعب اللبناني مختلف ويُشكّل نموذجاً جديداً في تاريخ علم اضطرابات ما بعد الصدمة وفي تاريخ البشرية. لذلك الأبحاث لا تنطبق كلياً على هذا النموذج.
وبرغم من ذلك، يعتبر الشعب اللبناني من أكثر الشعوب التي برهنت عن الصمود والاستمرارية والمقاومة. صحيح أن لبنان عاش صدمات كثيرة تفوق صدمات باقي الشعوب، إلا أن ذلك يسلط الضوء أيضاً على قدرته على تخطي هذه الصدمات وعلى الصمود والاستمرارية والنهوض. وضع لبنان إذاً فريد من درجة الفظاعة ومن ناحية القدرة على تخطي الفظاعة أيضاً.

* متى يمكن القول إن الأعراض التي ترافق اللبناني هي نتيجة اضطراب ما بعد الصدمة ومتى تتخطى ردة الفعل الطبيعية إلى حالة نفسية تتطلب متابعة طبية- نفسية؟
تندرج بعض الأعراض في خانة اضطراب ما بعد الصدمة مثل الكوابيس بعد التعرض لصدمة كبيرة وتجنب أي مكان أو حديث أو ذكرى عن الصدمة. وكيف قد يعيش الشخص من جديد كل الخوف والتوتر والمشاعر التي شعر بها في تلك اللحظة والشعور بالذنب. وهذه الأعراض تكون متوقعة وطبيعية ضمن حدود ومهلة معينة، أما في حال طالت هذه الأعراض لفترة زمنية أطول أو أصبحت تُسبب مشاكل وعراقيل في حياة الشخص المهنية أو الشخصية أو الدراسية، عندها نُطلق عليها اسم اضطراب. وبالتالي يمكن الحديث عن العلاج النفسي.
 

* لطالما شدد علم النفس على فكرة انتقال المشاعر والمخاوف باللاوعي من جيل إلى جيل، اليوم عشنا
جميعنا الخوف والقلق ورهبة الموت، فما الذي قد ننقله للأجيال القادمة؟ وكيف يمكن أن نتصالح مع هذه المآسي والهواجس حتى لا يكرر التاريخ نفسه؟
كان جيل الحرب يردد "تنذكر و ما تنعاد"، اليوم نشعر أن التاريخ يُعيد نفسه. الجروح القديمة عادت تنزف بعد أن ظننا أنها التأمت.
أما الجيل الجديد وضعه مغاير و مختلف، لديه في اللاوعي خطوط تماس معينة نتيجة سماعه قصص الحرب ومشاهدته بعض الصور أو خسارة أحد افراد عائلته أو بيوت تدمرت في الحرب أو التهجير. إذاً هذه الحرب ليست غريبة كلياً عنه، ولكن في الوقت نفسه لم يختبر تجربة شبيهة لانفجار 4 آب . لذلك إن الانفجار الذي وقع كان غريباً وأليفاً في الوقت نفسه.
ما يقلقني اليوم من الجيل الجديد أنه لا يملك الخبرة ليفهم كيف يمكن لمجتمع أن يمرّ بهذا الحدث المفجع، ومع ذلك يمكنه متابعة حياته والاستمرار ويفتح صفحة جديدة. ولأنه لم يختبر سابقاً ما عايشه الجيل الماضي ولم يختبر عودة الحياة التي اختبرها الجيل الماضي، أخاف أن تؤثر هذه الصدمات على فقدانه الأمل.
ولكن في المقابل ما أظهره هذا الجيل من اندفاع ومساعدة من خلال نزوله إلى ساحة الانفجار منذ الساعات الأولى والوقوف إلى جانب الجرحى والعائلات المنكوبة يبعث الأمل وخلق نافذة ضوء تبعث الإيجابية في ظل السوداوية التي كانت وما زالت تعصف ببيروت وضواحيها.
لذلك في اضطراب ما بعد الصدمة لا نركز فقط على الأعراض، بل يجب التركيز أيضاً على مدى قدرة الشخص على التأقلم وأن يقلب صفحة جديدة وإستكمال حياته رغم كل شيء. لذلك ما قام به الجيل الجديد بعد لحظات من الانفجار تُرفع له القبعة، هو الذي صالحنا مع الأمل وبرهن أنه برغم من الصدمة والجريمة التي ارتُكبت بحق الإنسانية "كان قدا وقدود".
 

* يعيش الناس حالة هلع وقلق كبيرين منذ انفجار بيروت حتى الساعة، لم تعد الناس تتحمل صوتاً قوياً أو أي انفجار أو حريقاً مهما كان بسيطاً، فكيف يمكن معالجة القلق والتعامل معه حتى لا يُعيق حياتنا؟
علاج اضطراب ما بعد الصدمة يرتكز على العلاج النفسي بواسطة الكلام أو الدواء.
ينقسم العلاج بواسطة الكلام إلى شقيّن:
الشق الأول : Cognitive processing therapy (CPT) : عبارة عن 12 جلسة تقريباً من خلالها يساعد المعالج النفسي المريض على تغيير طريقة تفكيره في ما يتعلق بالصدمة.
الشق الثاني: Prolonged exposure therapy (PE) : يلجأ من خلالها المعالج النفسي لمساعدة المريض على تقبّل والمصالحة مع الأماكن والذكريات المتعلقة بالصدمة. إذاً يساعده المعالج على مواجهة هذه الأعراض والمخاوف والهواجس، ومع الوقت ينجح المريض في المصالحة مع ما حصل.
أما بالنسبة إلى العلاج الدوائي، لقد أظهرت بعض البحوث فعالية بعض الأدوية لمعالجة اضطراب ما بعد الصدمة. برز منذ العام 1999 دواءان موجودان في لبنان وهما Zoloft و seroxat وفيما بعد استعملvenlax . في حين أن هناك بعض الأدوية مثل الـ Prazosin الذي يعالج أعراضاً محددة مثل الكوابيس.
اليوم تشهد الأبحاث تطوراً حثيثاً في العلاج الدوائي لاضطراب ما بعد الصدمة، والتي تركز على عدم تكوين وترسيخ ذكرى الصدمة أساساً Memory consolidation blockade.
ختاماً هنالك virtual rality therapy التي تُعيد تكوين مشهد الصدمة لمساعدة المريض على مقاربة
 المشهد بطريقة يسيطر فيها هو على الصدمة والانفجار وليس العكس.