في سؤال الناس، في مواجهة الناس...

إبرهيم منيمنة*
 
نعيش حالة الانهيار في يومياتنا وتتأرجح بين انحدار وبرهات من الاستقرار الوهمي، بعد غفلة من ذلك الاستقرار تعود لتتصاعد المشاكل الحياتية والمعيشية اليومية ونصدم مجدداً بحقيقة القعر المتحرك.

ورغم ذلك لم نصل إلى الدرك الأسفل بعد.

وترتفع الأصوات المستغربة المستهجنة عدم تحرك "الناس" وانكفاءهم.

كيف لهؤلاء "الناس" ارتضاء ذاك الإذلال اليومي؟

ها هو الاستهجان التقليدي الذي ينتهي بسؤال "وين الناس؟"

أما الإجابة فترتبط بهوية السائل.

فثمة سائل موالٍ شامت لقوى السلطة، وهو لا يكفّ عن نثر الملح على جرح تقهقر انتفاضة 17 تشرين والتي فقدت رافعتها بالتحركات الشعبية مع امتداد فترة الانتفاضة وتأزم جائحة كورونا، وقد يكون أحد المتعطّشين إلى التغيير غير مدرك لسبب إحجام "الناس" عن الغضب، فيما تتردى أوضاعهم عامة.

كلا السائلين يتوجه إلى "الناس" على أنهم الجهة المتضررة، وهم بذلك يرسمون الخصومة السياسية بين طرفين ’متضررين’ أي "الناس" بمواجهة ’متسببي الضرر’ أي النخبة السياسية الحاكمة.

وهذا هو مكمن بيت القصيد: هل كل "الناس" لديهم نفس الموقف من الطبقة السياسية؟ هل كل "الناس" متضررون ويشعرون بغبن الأحزاب الحاكمة؟ هل كل "الناس" يتطلعون إلى إزاحة هذه الطبقة واستبدالها؟

حتما التغيير ليس رغبة كل "الناس"، فثمة فئة تدين بالولاء للأحزاب السياسية الحاكمة التي هي ليست مجموعات نخبوية مبتورة بلا قواعد شعبية. وهم ممن يعتبرون ان انتفاضة 17 تشرين حراك استهدف حضورهم السياسي. إذاً هؤلاء هم على تضاد مع مؤيدي 17 تشرين.

وبمجرد إقرارنا بالحضور الشعبي لتلك القوى، سيترتب على ذلك إعادة تعريف "الناس". لم يعد ممكنا إنكار حجم تمثيل هذه القوى وبالتالي الإحجام عن المواجهة السياسية معها. كما لا يمكن تجاهل الانقسام المجتمعي الحاصل خوفاً من فزّاعة المواجهات الشعبية، وأثر إغفال ذلك على مصداقية الخطاب السياسي للمعارضة.

بات لا بد من تعريف الخصومة السياسية في البلاد انطلاقاً من هذا الفرز المجتمعي والانتقال إلى بناء المواجهات والمعارك السياسية على أساسه.

نحن اليوم أمام رؤيتين متناقضتين للوطن ولكيفية إدارة الشأن العام، وما يتبع ذلك من سياسات ثقافية واجتماعية واقتصادية وبيئية.

إن القوى الحاكمة بتمثيلها قسماً من المجتمع، هي أيضاً تمثل تطلعات مناصريها في إدارة الدولة والحيز العام انطلاقاً من صيغة حكم تمثيل المجموعات الطائفية.
هذه الصيغة تبلورت معالمها في أواسط القرن التاسع عشر وامتدت ممارستها إلى اليوم رغم اعتماد دستور الدولة الوطنية، بل وتحولت إلى صيغة حكم موازٍ للمؤسسات الدستورية الشرعية.

هي صيغة تستند في مشروعيتها إلى جذور تاريخية وإلى جمهور كرسها على أنها "طبيعة" و"خصوصية" لبنان. وهذه الفئة بتبنيها هذا النهج تكون قد رسخت ممارسات في إدارة الشأن العام، ترتكز على قيم التمثيل الطائفي والتراتبية الاجتماعية والزبائنية والاستئثار والتمييز والاستقواء.

وفي المقابل، القسم الآخر من "الناس" المعترض والمنتفض في 17 تشرين في وجه الطبقة الحاكمة والرافع لشعار "كلن يعني كلن" كحالة رفضية شملت ليس النخبة الحاكمة بشخصياتها وأحزابها فحسب، بل وأيضاً تلك القيم التي حكموا من خلالها حتى أوصلوا البلاد إلى مستوى الدولة الفاشلة. فلقد ثار أولئك "الناس" مطالبين بممارسة مختلفة لمفهوم الحكم يقوم على قيم نقيضة لتلك التي تتبناها "جماعات السلطة".

إنها قيم المواطنة في وجه الطائفية، والكفاءة في وجه الزبائنية، والعدالة في وجه الاستقواء، والمساواة في وجه التراتبية الاجتماعية والتمييز، والديمقراطية في وجه الاستئثار. هذا هو "المجتمع النقيض" لجماعات السلطة.

لقد تعاظمت سطوة "جماعات السلطة" من خلال أحزابها حتى أصبح أي مواطن/ة خارج منظومة الجماعات غير قادر على الوصول إلى أبسط حقوقه. بل يمكن القول إن قوى السلطة تمارس عملية إقصاء ممنهج لكل من هو خارج أطرها الطائفية ولا يتبنى نهجها القيمي.

هكذا، أصبح كل فرد يؤمن بكفاءته ويصر على استقلاليته السياسية خارج السيستم، وبل يرزح تحت مظلومية التمييز ضده.

الشرخ المجتمعي في لبنان هو واقع بين هاتين الفئتين من "الناس" والمظلومية السياسية قائمة بالفعل. والجواب على سؤال "وين الناس"... نعم تستطيع غالبية "الناس" التي باتت خارج السيستم إعادة اكتشاف هويتها السياسية وخلق إطار سياسي جامع لمواجهة استبداد واستئثار "جماعات السلطة"

لنتبدع مساحات اشتباك جديدة مع المنظومة انطلاقاً من هذا الفرز المجتمعي ونبدأ بصغار كسبة المنظومة.
 
*مهندس معماري وخبير في التنظيم المدني

مهندس معماري لأكثر من 20 عامًا متخصصًا في مجالات الهندسة المعمارية والتصميم الحضري، وهو مؤسس شركة استشارية للتصميم وعمل في العديد من شركات الهندسة الدولية.
ناشط سياسي وفي عام 2016، شارك في تأسيس حملة "بيروت مدينتي" للانتخابات البلدية في بيروت وكان رئيس قائمتها في وجه تحالف السلطة
أسس حملة "كلنا بيروت" وترأس لائحتها للانتخابات النيابية عام 2018 عن دائرة بيروت الثانية

إبراهيم منيمنة يركز على اولوية التطبيق السليم للدستور للوصول إلى الدولة المدنية والدفاع عن دولة المواطنة ضد الانتهاكات القائمة على المصالح الطائفية والحزبية.