حلم الباحث عن الأنس في الآفاق المتشعّبة... يوم أصبح شارع "الحمراء" إغراء يعزف العالم تحت شرفته

كتبت رولا حميد
 
من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً، ومن الأفقر إلى الأغنى، ومن الأعتق إلى الأحدث، ومن المحافظ جداً إلى المتحرر جنونا، ومن الثقافة العميقة إلى التفاهة السطحية، ومن الأجمل إلى الأبشع، ومن العلم إلى الجهل.. معادلات قليلة لأخرى أوسع وأشمل... يتكثّف العالم بعناصره وتقاليده ورؤاه في حالة نادرة على مسافة لا تزيد عن الكيلومتر ونصف... إنّه شارع "الحمراء" في بيروت.
 
يصحّ الشارع حلماً لباحث عن الأنس في الآفاق المتشعبة، أو مطارد لوساوس الظلام المغمور بالأنوار الساطعة المتلألئة دون توقف، وملاذاً لكل أصناف البشر، تتعايش فيه المتعارضات والمتناقضات والمتشابهات من مظاهر الدنيا، ويصحّ للسكن الهادئ لمن يشاء، وللصخب الماجن لمن يشاء، فيه المحلي والأجنبي، والفقير والغني.. كل الأشياء هناك موجودة بطبيعة الحال، فلا أحد يمنع أحداً من الارتياد، والكلّ يمضي وقته أو يعيش حياته بحرية كاملة. 
 
 
الفنادق الفخمة الأحدث عالمياً تجاور مثيلات بسيطة، ومحلات تقليدية لبيع الخضار و"السمانة" الصغيرة تقارع "السوبرماركات"، ورائحة الفلافل، ومناقيش الصعتر، تختلط مع رائحة الوجبات السريعة لـ"الهارديز" و"الرودسترز"، والجلابيب الطويلة التقليدية تزين الواجهات إلى جانب آخر صرعات الموضة، ومقاهي الثقافة وصالات العرض الفنية-المتراجعة مؤخراً- تتسابق على الأغلى والأجمل والأبهى.. أوصاف لا تتوقف، لكنها حتما وصلت إشاعاتها وأخبارها إلى أصقاع لبنان، والمعمورة، فلم تعد زيارة بيروت ذات طعم دون المرور هناك.
 
الحمراء عبر التاريخ
 
أطلقت تسمية "الحمراء" على هذا الشارع ومحيطه نسبة الى قبيلة الحمر التي كانت تستوطن تلك المنطقة. كان الحي منذ نحو قرن منطقة تكسوها البساتين، وتعيش فيها بعض الحيوانات المفترسة. وعندما بنيت الجامعة الاميركية في المنطقة المذكورة، انتعشت الحياة المدنية الجديدة، حيث شقت الطرقات، وغزاها العمران سكنياً وتجارياً، وبدأ يتحول تدريجياً إلى مركز سياحي يشتهر بأفخم الفنادق والمقاهي والمحلات التجارية والبنوك ودور السينما والمسارح.
 
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي اشتهرت "الحمرا" بمقاهي الرصيف التي لا يقتصر روادها على الراغبين بإحتساء القهوة والشاي، بل تعداه ليكون ملجأ كتاب وشعراء ومثقفين سياسيين ومعارضين لأنظمة بلدانهم، حيث كانت بيروت قبلتهم الوحيدة في الشرق. وكانت تلك المقاهي ملتقى هؤلاء، حيث تعارفوا ومارسوا النقد السياسي اللاذع.
 
 
وفي زمن الازدهار الاجتماعي والاقتصادي الذي شهدته العاصمة اللبنانية استقطبت مقاهي "الحمراء" العديد من كبار الشعراء أمثال: "أدونيس، محمد الماغوط، يوسف الخال، غسان كنفاني، ومحمود درويش .. والعديد من الأدباء والصحافيين اللامعين. وعلى طاولات المقاهي ولدت الأشعار والأفكار والكتابات الأدبية. وعلى الجانب الآخر كانت "الحمراء" تغص بالشباب والصبايا الباحثين عن اللهو والمرح وأفلام السينما والمسرحيات، اضافة الى المأكل والمشرب، كما التسكع ليلاً ونهاراً في منطقة لا تعرف النوم. 
 
ومن المفارقات ان افتتاح أول مقهى رصيف عرفه شارع "الحمراء" تزامن مع عيد استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني 1959 وهو مقهى "الهورس شو" لصاحبه منح دبغي، وقد استقطب هذا المقهى في حينه عشرات الأدباء والمثقفين والسياسيين اللبنانيين والعرب.
 
ومع مرور السنين احتل شارع "الحمراء" منصب القمة في لبنان، على الرغم من أن طوله لا يتعدى 1300 متر وعرضه 15 متراً، لكنه كان ينبض بالحياة حتى في أصعب الظروف التي كان يمر بها لبنان. فهذا الشارع الذي أسهمت أحداث عام 1958 التي عرفت بالثورة، في تحول تجار وسط بيروت إليه لبعده عن التجاذبات السياسية لبساطة حياته، وهامشيتها في تلك الفترة، ما أنعش حركته، وكثّف نشاطه على الصعد المختلفة.
 
 
وكرت سبحة المقاهي بعد "الهورس شو"، فافتتحت مقاهٍ عديدة ومنها: "الأكسبرس"، "مانهاتن"، "النيغرسكو"، "الستراند"، "الإلدورادو"، "دو باري"، "المودكا"، والويمبي..". كما اشتهرت في تلك الحقبة مسارح وصالات سينما عديدة ومن ابرزها: "البيكاديللي"، "جاندارك"، و"السارولا"..، التي شكلت ذاكرة ثقافية جماعية لروادها من لبنانيين وعرب. وسطع بريق "الحمراء" على مدى عقود إلى أن وقعت الحرب اللبنانية في العام 1975، وما تلاها من حروب، وأحداث داخلية أسهمت في شلل مختلف المناطق اللبنانية، وكان للحمراء نصيب أفقدها الكثير من بريقها، ومقاهيها، ومسارحها، وناسها الى حد بعيد.
 
أنماط جديدة
 
بين عامي 2004 و 2007 شهد شارع "الحمراء" إعادة تأهيل، واستعادة نشاط متزايد قوامه حركة المطاعم والمقاهي العالمية ومنها: "كوستا"، "ستاربكس"، "ليناس"، "دو براغ"، "رودسترز"، "ناندوس"، "اكسبرس"، "سبارو"، "شوبستكس"، "سكوزي"، "نابوليتان"، "روليه"، "بوفالو ستيك هاوس"، "لايزر"، ماكدونالدز"، و"لذيذ". 
 
ادى هذا الاندفاع إلى "شارع الذوات"، كما كان يحلو للبعض تسميته، إلى ارتفاع نسب الإيجار والخلو، وتوفرت الفنادق والشقق المفروشة بشكل كبير، ما أدى إلى استقطاب أعداد كبيرة من السياح والطلاب. 
 
ونشطت فيه الحياة الفنية والثقافية، التي أقيمت لها المراكز والمقاهي والمنتديات على نمط حديث فنشطت حركة مسرح المدينة، ودور السينما التي تستقطب أنشطة الثقافة والفنون إلى جانب العروض السينمائية، وظهرت مقاهٍ حديثة، و"غاليريات" المعارض الفنية.
 
كما استخدم شارعه العام لإقامة الاحتفالات الفنية، ومناسبات الأعياد، والمهرجانات، ومعارض الأشغال والحرفيات، وما إلى هنالك من أنشطة.
 
رغم تراجع أوضاعه بسبب التطورات اللبنانية الأخيرة، ما زال "الحمراء" مقصد الاستراحة، والترفيه الأول في بيروت، وملاذا للهاربين من توترات الأوضاع العامة.