بيئة لبنان التربوية تتفكّك وهجرة أكثر من 10% من المعلّمين... البعض سافر الى المجهول فـ"لقد هرمنا!"

"نجَونا"... كلمة تختصر بها معلّمة علوم الطبيعة، نادين نشار، قرار هجرتها إلى كندا في آخر العام 2020.

لم تتردّد المعلّمة، التي زاولت التعليم في مدرسة خاصّة، والتي يتولّى زوجها الزميل إدارة إحدى المدارس، في ترك لبنان مع ولديها، وتعتقد أن 15 سنة من التعليم قد "كفّت وأوفت".

فخلال استراحة محاضرات في قسم العلوم التمريضية في جامعة مونتريال، تقول نادين عبر الهاتف: "التضخّم المالي هو ما أنذرنا بالخطر. اتّخذنا قرار الهجرة حين وصل سعر صرف الدولار إلى 4000 ليرة، وكنّا نرى ألا أرض ثابتة ممكن أن تجعلنا نستمرّ في لبنان، فرحت أبحث عن الطريق الأسرع للهجرة إلى كندا".

وتنتمي نادين وزوجها الى شريحة واسعة من مهنيين تشكّل هجرتهم مؤشرًا مقلقًا من بين ثلاث مؤشّرات تتعلّق بدخول لبنان في موجة هجرة جماعية (Exodus) من المتوقع أن تمتدّ لسنوات؛ وذلك حسب تقرير نشره مرصد الأزمة مطلع الأسبوع.

ويُبيّن التقرير أنّ هجرة المتخصّصين والمهنيّين الكثيفة شملت العاملين والعاملات في القطاع الصحي والتمريضي تحديداً، وكذلك العاملين في قطاع التعليم العالي والثانوي. وفي ما يخصّ أفراد الجسم التعليمي، "هاجر منه المئات إلى دول الخليج وشمال أميركا. ففي الجامعة الأميركية وحدها سجّل خلال عام رحيل 190 أستاذًا يشكّلون حوالَي 15% من الجسم التعليمي".

بهذا الصدد، يُشير نقيب المعلّمين في المدارس الخاصة رودولف عبود لـ"النهار" إلى أنّ "النقابة لم تُحط حتى اللحظة بأعداد جميع المعلّمين الذين هاجروا، لأن الإحصاءات لم تشمل بعد جميع المدارس، لكن يمكننا الحديث عن 10% من إجمالي المعلّمين في المدارس الخاصة. أما المدارس الرسمية، فتمتلك آليّة أخرى للرصد، والمعلوم أنّ معلّمي الرسميّ يلجأون إلى الاستقالة اليوم من خلال الاستيداع أو الإجازة غير المدفوعة".

وحسب أرقام الباحث محمد شمس الدين من الدولية للمعلومات، يبلغ عدد المدارس الخاصة 1209 مدارس، يعمل فيها نحو 51215 أستاذًا، وعدد المدارس الرسمية في لبنان هو 1235 مدرسة، تضمّ نحو 40796 أستاذًا، أمّا المدارس الخاصة شبه المجانية، فيبلغ عددها نحو 352 مؤسّسة، وتضمّ 7468 أستاذًا.

 

إجحاف بحقوق الأساتذة

 بالنسبة إلى المعلمة نادين، لم يكن التضخم المالي وحده نذير سوء، إلّا أنّ "التدهور انسحب على معاشاتنا، فتقاضينا نصف معاش لشهرين، قبل أن تعاود المدرسة دفع الرواتب كاملة. وبالرغم من ذلك، كانت المعاشات لا تكاد تلبي حاجاتنا الأساسية منذ عام، فما بالنا اليوم؟"، نافية أن تعود إلى لبنان قبل 10 سنوات.

ودفعت ضغوطات "الأونلاين" النفسية نادين إلى اتخاذ القرار الحاسم: "التعليم شغفي. لكن "الأونلاين" قوّض نصف أدوارنا كمعلّمين. لم نعد نتعاطى وجهًا لوجه مع التلاميذ لنتأكد أنّ المعلومة حقًا وصلتهم. والأهل استنزفهم الوضع المعيشي، وصاروا غير قادرين على مساعدة أولادهم. شعرت بأنّ جهودي تضيع سدى، فإمكاناتنا محدودة والدولة لا تساعد".

وأمام انسداد الأفق، بحثت المعلّمة السابقة عن أسرع طريق هجرة، فتبين أنّ هجرتها كطالبة ستكون سريعة، واختارت العلوم التمريضية "لأنه مطلوب في جميع المقاطعات، فانتقلت إلى كندا مع عائلتي في غضون ستة أشهر، أما زوجي فيتمتع بعقد عمل مفتوح لأنني طالبة جامعيّة، وأولادي يتلقّون أفضل تعليم في المدارس الرسمية. بعد مدّة من إقامتنا في كندا، صرنا نتساءل: أحقًا كانت حياة تلك التي عشناها في لبنان؟".
ويعتبر النقيب عبّود في هذا الاطار "أنّ الأسباب التي تدفع المعلمين لترك لبنان، بعضها عام ومرتبط بأزمة البلد، وبعضها خاصّ مرتبط بقطاع التعليم، فالمعلمون "يعانون من شحّ البنزين، ممّا يمنع وصولهم إلى المدارس، وإذا ما توفّر فإن تكلفته عالية، علاوة على أنّ أغلبيّة المعلمين لا يتقاضون رواتبهم بالكامل، وشريحة كبيرة لا تتقاضى رواتبها حسب القانون 46 الذي حدّد سلسلة الرتب والرواتب بسبب رفض مدارس خاصّة التصديق عليه."
واللافت أنّ "الأزمة بفعل اشتدادها شظّت وجهات الهجرة، فلا يمكن حصرها بنطاق جغرافي محدّد. هناك مجموعة من المعلّمين الذين اكتسبوا مهارات البكالوريا الدولية (IB) فضّلوا الهجرة إلى الصين."

وعن حلول تعدّها النقابة: "لا هامش واقعيًّا على مستوى النقابة لنخلق آمالًا لدى الأساتذة. الحلّ يجب أن يكون إصلاحيًا - حكوميًا، خصوصًا بعد تأكيد التجربة أنّ محاولات تصحيح الأجور فاقمت التضخم من دون طائل."
وختم: "نحن اليوم نخوض نقاشًا مع اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة التي إن حقوق المعلم أولوية كبيرة يجب الوقوف عندها. والاحتمالات تدور حول إعطاء المعلمين سلفة أو مساعدة أو الدرجات الستّ التي أقرّها القانون إلى جانب سلفة ومساعدة."

وتفيد أرقام وزارة التربية لعام 2021 بأنّ القطاع التعليمي يضمّ 1.25 مليون تلميذ، نحو 60% منهم يلتحقون بالتعليم الخاص، ما يؤشّر إلى ضخامة هذه المعضلة في قطاع التعليم الخاص الذي يرتبط به مستقبل أكثر من نصف تلامذة لبنان، ويهجره أساتذته.

هجرة إلى المجهول
ويفضّل أساتذة في التعليم المدرسي المجهول على البقاء في لبنان، كأنّ الاستمرار في لبنان هو أبغض الحلول.
هذه حال مهى (اسم مستعار) معلّمة اللغة الفرنسية في مدرسة خاصة، التي فضّلت عدم ذكر اسمها لأنّ "إمكانية الهجرة لم تحسم بعد، ولم أقدّم استقالتي من مدرستي. سافرت منذ مدّة إلى الإمارات مع زوجي ليبحث كلانا عن فرصة تعليميّة، وانتقلنا بفيزا سياحية، بدعوة من شقيقتي، لنبحث عن بديل. لقد هرمنا!".

ومهى الحائزة على ماجستير تربوي من جامعة البلمند مع 27 سنة خبرة في التعليم عانت من هضم حقوقها المالية في مدرستها، التي لم تطبّق سلسلة الرتب والرواتب، وخصمت معاشات ثلاثة أشهر، وأجبرت المعلّمين المستقيلين على توقيع براءة ذمة مالية. كذلك عانى زوجها، أستاذ الفيزياء في مدرسة خاصة، نفس الأزمة، حيث بات يتقاضى نصف راتب، وإلّا الصرف.

وليس وضع المعلمين في المدارس الحكومية أفضل حالًا من وضع زملائهم في التعليم الخاص، لا سيما المتعاقدين منهم.

وأشارت أرقام "رويترز" في آذار 2021 إلى أنّ "معلمي المدارس الحكومية يحصلون على رواتبهم بالليرة اللبنانية، التي فقدت ما يقدّر بـ 90٪ من قيمتها، مما يجعل رواتب المعلّمين تساوي الآن ما بين 1 و 2 دولار أميركي للساعة".

هذ الواقع يعيشه محمد جوهر، أستاذ مادّة الجغرافيا في التعليم الرسمي، والحائز على دبلوم تعليميّ من الجامعة اللبنانية. هاجر بداية الصيف إلى السويد مع زوجته وابنته "لأنّني أعلم أنّ هذا القطاع لن يمكّنني من تكوين عائلة. أنا متعاقد منذ العام 2009 وحتى السنة لم أضمّ إلى الملاك. مشقّات كبيرة ولا مردود ماديًا، آسف فقط على ترك أهلي، لكن لا ممتلكات لي إطلاقًا في لبنان، وما جنيته في سيّارة بعته".

ويتابع: "صدمتي كبيرة بحاجز اللغة، فقد علمت أن السويدية تكتسب خلال سنتين. لكنّني راضٍ ببداية جديدة، اخترت أن أخوضها لحفظ كرامتي وكرامة أسرتي".

 

"فقر التعليم" واستنزاف المعلم
الباحثة والمستشارة التربوية، الدكتورة بسمة جدايل فاعور، تعتبر أنّ عدم تطبيق استراتيجيات تعليمية منذ اتفاق الطائف، الذي استتبع بخطة نهوض تربوية جديدة، أفرز عناوين جذابة غير مترجمة على أرض الواقع، ما أدّى إلى تدهور قطاع التعليم بمكوّناته كافّة، وجاءت الظروف الصحية والاقتصاديّة والأمنيّة الصعبة التي تعانيها البلاد لتفكفك هذا القطاع، ونحن سنعاني قريبًا مما يسمّى "فقر التعلّم".

وإلى جانب المشكلات البنيويّة الجمّة التي يعانيها القطاع التربوي في لبنان، تفند أسباب أزمة المعلمين كالآتي: "أثّرت أزمة "كورونا" على التعليم في كلّ العالم، لكن الفارق يكمن في كيفية استجابة كلّ دولة. ثمّة ما يُسمّى بـ"فريق عمل إدارة الأزمات" مهمّته وضع خطّة طوارىء وتطبيقها. الخطّة التي اعتمدتها وزارة التربية في لبنان أثبتت أنها ترقيعيّة وفاشلة، فلم تسعَ لتأمين البنى التحتية من كهرباء وإنترنت وأجهزة إلكترونية، واليوم يواجه الأساتذة والتلامذة أزمة البنزين".

وفي السياق، أظهر تقرير حول "التعليم في ظلّ الحجر الصحيّ أثناء جائحة كوفيد-19"، أصدره مركز الدراسات اللبنانية هذا العام، أنّ المعلّمين في لبنان عانوا "تدهور ظروف العمل"، فـ"مع الانتقال من بيئة الصف الدراسية إلى المنصّات عبر الإنترنت، وجد المعلمون أنفسهم يعملون لساعات أطول مع دعم محدود، لا سيما أولئك الذين يعملون في القطاع العام".

وذكر نصف المعلّمين الذين شملهم التقرير من القطاع العام أنهم "يعملون ساعات أطول من دون زيادة في رواتبهم أو أنهم يستلمون جزءًا من رواتبهم. وتزداد النسبة في القطاع الخاص إلى 82%.

وتذكر الباحثة أنّ "الدولة اللبنانية جمّدت التوظيف في القطاع الحكومي بين 2011-2017، فلجأت إلى المتعاقدين، الذين تضاعف عددهم في الجسم التعليمي بنسبة 123%. والمتعاقد لا قيود له ولا محفّزات كما في الملاك."
ويرجّح التقرير الصادر عن البنك الدولي في حزيران 2021 بعنوان "التأسيس لمستقبل أفضل: مسار لإصلاح التعليم في لبنان"، أن "تؤدّي الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الحالية، وتأثير جائحة كوفيد -19 الصحية، والانفجار الأخير في مرفأ بيروت، إلى انخفاض التمويل المتاح للتعليم". وأشار إلى أن "الإنفاق الحكومي على التعليم غير كافٍ، حيث بلغ أقلّ من 2% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020، وهو أقلّ من معدّل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 4.4% وهو من بين أدنى المعدلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا."

من الناحية التقنية، تقول الباحثة فاعور "لم يخضع المعلمون لتدريب كاف يمكّنهم في "الأونلاين"، فلجأ كثير منهم إلى تطبيق واتساب، لأنه تكنولوجيا بسيطة ولا يحتاج إلى الكهرباء".

وتضيف: "تضاعفت الضغوطات على المعلّمين في المجتمعات الفقيرة، حيث يعاني مئات الأهالي من الأمّية المعلوماتية، وكانوا عاجزين عن مساعدة أولادهم خلال الدراسة."

وتشدّد على العامل النفسي، الذي كان حاسمًا في دفع معلّمين إلى الهجرة، إذ "دفعت الأزمة الصحية والتعليم "أونلاين" بالدرجة الأولى المعلّمين عبر العالم وفي لبنان إلى التسرّب من القطاع التعليمي ومزاولة مهن أخرى"، مشيرة إلى "وجود أزمة عالميّة في الحفاظ على المعلّمين. ويخضع المعلمون عند إعدادهم في بعض البلدان، لمقاربة Sink or Swim (إما الفشل وإمّا النجاح)، ويقيّم بقدرة المعلم على الاستمرار في مهنته أو تركها".

وتنتقد الباحثة "وزارة التربية التي لم تضع خطّة تعافي بعد جائحة كورونا تركّز على الصحة النفسية للتلامذة والمعلّمين والمديرين في العام الدراسي الجديد، ولا خطّة واضحة عمومًا للعودة إلى المدارس".

وتستنتج: "لا يلام المعلمون إن هجروا التعليم وهاجروا، بعد أن أصبح معاشهم يوازي دولارًا في الساعة ومن دون مقومات تحفظ صحتهم النفسية".