"النهار" عاينت خسائر الحرائق... حرج القبيات يتحوّل لمقبرة أشجار وقلبُ الأهالي يَعصُر (صور وفيديو)
31-07-2021 | 21:22
المصدر: "النهار"
لم يكُن فريق عمل "النهار" يتوقّع حجم الخسارة الحرجية الهائلة في أحراج بلدة القبيات التي اشتعلت منذ يوم الأربعاء، فالـ"حكي مش متل الشوف". حرائق التهمت الأخضر واليابس، تاركةً مشاهد تُدمي القلوب وتُبكي العيون على ما تبقّى من أحراجٍ خضراء في لبنان.
توجّهنا إلى قلب حرج القبيات في عكار لنعاين الخسائر والمنطقة المنكوبة، بعد "حريقٍ كان الأكبر من حيث الحجم والخطورة"، على حدّ تعبير أمين سرّ المجلس البيئي في البلدة منير غصن. هذا الحريق "غدرنا" كما يصفه غضن، ولم تكن السيطرة عليه سهلة، فقد تخطّى خطّ نظر برج مراقبة الحرائق في المجلس.
طوّافة الجيش بانت في السماء على مشارف البلدة، وهي آتية من الأحراج باتجاه البحيرة الكائنة على أبواب القرية، لتسحب الماء وتعود ثانية لتخمد ما تبقّى من الحريق. في البلدية اجتماعات على أعلى مستويات بين رئيس البلدية والأجهزة الأمنية والمحافظ، لمتابعة تطوّر عمليات إخماد الحرائق. ووجهُ رئيس بلدية القبيات عبدو عبدو "لا يُفسَّر" من شدّة حزنه، "فالمنطقة كلّها اشتعلت لا فقط القبيات".
تأهَّب أهل المنطقة لمؤازرة الدفاع المدني، شيباً وشباناً رجالاً ونساءً، وتوزّعوا المهامّ والأدوار والمناوبات، في حدثٍ يجسّد محبّتهم لمنطقتهم وبلدتهم، وحزناً على الأحراج الملتهبة، حيث ترعرعوا وشبّوا وشابوا. فلكلّ شجرة قصّة مع أحدهم، ولكل زاوية من الغابة ذكرى جميلة أصبحت رماداً.
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
التهمت النيران ملايين الأشجار من البلدة المذكورة التي تتميّز بأشجارها الكثيفة. و"عصرت قلوب أهالي القبيات من حزنهم على ما جرى، فالأشجار هنا صامدة منذ مئات السنين وجميع أهالي البلدة قد شاركوا مرات عديدة في إطفاء الحرائق فيها. لكنّ هذا الحريق كان أكبر من الجميع"، يقول أحد وجوه في البلدة وهو يعبّر بأسى.
احترقت نقطة يسمّونها 'النفق"، لكثافة الأشجار وتشابكها على أحد المفارق، بحيث تشكّل الأشجار نفقاً فوق المارّة على جانبي الطريق الأيمن، وحيث كان يبلغ طول هذا النفق نحو كيلومتر. وكان معظم السيّاح والآتين من خارج المنطقة يلتقطون أجمل الصور لتوثيق زيارتهم القبيات وحتى العرسان... غاب النفق وأصبح المفرق مكشوفاً وتسطع عليه أشعّة الشمس.
يتهيّأ لمَن يسير على طريق الحرج أنّه يسير في صحراء مقفرّة أو في مقبرة أشجار. ألوان الحرج الزاهية المعتادة اختفت واستُبدلت باللون الرمادي. مساحات شاسعة مغروسٌ فيها جذوع وأغصان متفحّمة وعارية، والأرض أصبحت تراباً مغبرّاً ومحروقاً، والصخر تحوّل إلى شظايا بركان.
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
وكأيّ منطقة حرجية أخرى، القبيات وجوارها مهدّدة بالحرائق، والمعنيّون فيها هم دائماً على أهبة استعداد. لذلك أُنشئ برج مراقبة الحرائق الذي في البلدة في التسعينيات. إلّا أنّ حجم الحريق كان أكبر من البلديات ومن الدفاع المدني الموجود في المنطقة، ومن أهالي المنطقة ومن برج المراقبة. لكن لا شكّ في أنّ إمكانات الدفاع المدني والآليات الخاصّة لإطفاء الحرائق محدودة، إلى جانب النقص في عديد العناصر. هذا ما يؤكّده رئيس البلدية، عبدو عبدو، الذي طالب بوجود عناصر إضافيين من الدفاع المدني، والتزوّد بالآليات والمعدّات والطوّافات المختصّة بإطفاء الحرائق، لتجنّب حرائق أخرى في المستقبل.
مع أول وطأة قدم في الحرج، لا يمكن التفوّه بأيّ كلمة، فالكارثة أكبر من أن يُعبَّر عنها بالكلام. فقط رائحة الحريق المكثَّفة في الجوّ تدفع بخرق الصمت من قوّتها، وكأنّ الحريق شبّ الآن. أكواز الصنوبر تملأ الطريق وتحاكي أخواتها الصغيرة المتفحِّمة "على أمّها".
لا يمكن حصر الخسائر ولا تحديدها، فمعظم حرج القبيات قد أصبح رماداً، والجبل المقابل للبلدة، حيث امتدّت ألسنة النيران، أصبح ذا لون رمادي كلوحةٍ مهترئة وقديمة. "الخسائر أكبر من الأرقام، فالمنطقة هنا هي رئة الشرق كلّه وخسرناها، وخسائرنا في بيئتنا لا تُعوَّض ولا حتى بخمسين عاماً، فقد فاقت الخمسين كيلومتراً مربّعاً من غابات صنوبر وسنديان وأشجار مثمرة ولا سيما الزيتون"، بحسب عبدو.
إلى جانب عناصر وقيادة الدفاع المدني والجيش وجميع الجهات التي تأهّبت للمؤازرة لإخماد الحريق، كان لسواعد أهل المنطقة مساهمة كبيرة في هذه العمليات بشكل مباشر أو غير مباشر.
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
وفي برج مراقبة الحريق الذي تحطّم زجاجه من حرارة النار، راقبت فتيات البلدة بعيداً، وتشاورن مَن منهنّ ستكون مناوبتها في مطبخ الدير وفي أيّ توقيت. تقول إحداهنّ: "نحن نتناوب في ما بيننا لمؤازرة شباب بلدتنا وعناصر الدفاع المدني".
وجلس بضعة فتيان على تلّ صغير تحت البرج، ومعالم التعب والإرهاق وسواد الحريق عليهم، وتتراوح أعمارهم ما بين الـ13 والـ15 عاماً. "جئنا لمساعدة الدفاع المدني بمدّ الخراطيم وتوزيع الطعام والماء، وإخماد الحرائق"، يقول فتى مستلقٍ على الرماد. ويجيبون بصوتٍ واحد: "جئنا بملء إرادتنا"، ليردّ آخر: "علينا أن نقوّي قلبنا ونساعد بلدتنا فلا نخاف شيئاً". ويشرحون أنّهم لإخماد الحريق، يستخدمون أحياناً المرشّات الخاصّة أو أرجلهم إذا كان حريقاً صغيراً أو بقميصٍ يرتدونه.
كشافة البلدة وأهلها بادروا إلى تحضير الطعام لأبطال الإطفاء، واستعانوا بمطبخ الدير الذي فتح أوسع أبوابه تلبيةً لنداء الأهالي كما جرت العادة. فدير مار ضومط لا يشكّل مرجعية دينية في البلدة، بل مرجعية إنسانية واجتماعية. رائحة الطعام وصلت حتى مداخل الدير، والمتطوّعات يعملن كخلية نحلٍ لا تهدأ، وعددهنّ نحو 60 شخصاً من أعمار مختلفة، يحضّرن لفائف الشاورما والدجاج والمرتديلا والبطاطا، وسواها.
وتولّت سيدات البلدة وفتياتها مهمة تحضير الوجبات والفاكهة لإرسالها على مدار اليوم للشباب والعناصر. ومشهد التحضير الجماعي والتكافل لا يوصَف، فهو نموذج اجتماعي إنساني ووطني يُحتذى، ويبرهن على تمسّك وثبات أهل البلدة بقريتهم ووحدتهم في مواجهة الأزمات. وتروي إحدى السيدات وهي توضّب البطاطا في أكياس، أنّ "ما دفعني إلى القدوم والمساهمة والمؤازرة هو القبيات، فهي عنوان كافٍ لأكون بخدمته ونحن متأهّبون دائماً لخدمتها ولا سيما في ظروف كهذه، فأحراجنا هي حياتنا وأصبحنا نشمّ رائحة الحريق صباحاً بدلاً من الصنوبر وفي قلبنا غصّة ودمعة".
الجدير بالذكر أنّ الحرائق امتدّت من القبيات إلى عندقت وأكروم وكفرتون، ووصلت إلى الحدود السورية ودخلت إلى بعض مناطق الهرمل، ومن جهة الغرب، اشتعلت الحرائق في بينو وعكار العتيقة.
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
تصوير مارك فياض وحسام شبارو
.