الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

التغيّر المناخيّ يهدّد غابات الأرز في لبنان... المخاطر المحدقة والحلول الممكنة

المصدر: "النهار"
مشهد من محمية أرز تنورين الطبيعية ("النهار").
مشهد من محمية أرز تنورين الطبيعية ("النهار").
A+ A-
الدكتور جورج كرم
اختصاصي في علم المناخ

يُعَدُّ شجر الأرز اللبنانيّ Cedrus Libani من الأشجار المعمِّرة والدائمة الخضرة في لبنان. ينتمي إلى فصيلة الصنوبريّات، وينمو على الصخور الجيريّة (الكلس والدولوميت)، العائدة إلى العصر الجيولوجيّ الثاني (حقبة الجوراسي الأوسط والأعلى وحقبة السينومانيان- تورونيان). عدد هذه الأشجار محدود، تتجمّع في محميّات طبيعيّة على السفوح الغربيّة لسلسلة جبال لبنان الغربيّة، على ارتفاعات تراوح بين 1200 و2000 متر تقريبًا. وهي بذلك تخضع للمناخ المتوسّطيّ الجبليّ الرطب، الذي يتميّز بشتاء بارد وقارس، كثير الأمطار والثلوج، إضافة إلى صيف معتدل وجافّ. هذه المحميّات تتوزّع بين القموعة في جبال عكّار، بشرّي (أرز الربّ)، تنّورين – حدث الجبة، إهدن، جاج في أعالي قضاء جبيل، علاوة على محميّة أرز الشوف التي تشكّل آخر امتداد للأرز اللبنانيّ جنوبًا، وتضمّ غابات أرز عين زحلتا - بمهريه، غابة أرز الباروك وغابة أرز معاصر الشوف.
 
بعد مئات السنين من النمو والانتشار والصمود أمام العوامل الطبيعيّة ويد الإنسان المدمِّرة، تواجه هذه المحميّاتُ الطبيعيّة، منذ تسعينيّات القرن الماضي وحتّى اليوم، مشكلة بيئيّة خطرة تتمثّل بالتغيّر المناخيّ، الذي أرخى بثقله عليها، وأجهد أشجارها ولا يزال. فكيف تؤثّر هذه المشكلة البيئيّة في غابات أرز لبنان؟ وهل يشكّل التغيّر المناخيّ فعلًا خطرًا على ديمومتها؟ وكيف يمكننا مواجهة هذا الواقع؟
 
بات من المؤكَّد أنّ ظاهرة التغيّر المناخيّ قد أحكمت سيطرتها على الكوكب الأزرق. ولبنان كباقي دول العالم لم يعد بمنأًى عنها، إذ بدأ يشهد، ومنذ سنوات ليست بقليلة، تغيّراتٍ مناخيّةً ملموسةً في النظامَين المطريّ والحراريّ، فضلاً عن تطرّف مناخيّ واضح، ولعلّ الموسم المطريّ الحاليّ (2020 – 2021) خيرُ دليل على ذلك.
 
صحيح، ومن خلال دراساتنا، أنّ اتجاهات الأمطار السنويّة في لبنان لم تسجّل أيّ اتّجاه يُذكر في خلال الفترة الزمنيّة الممتدَّة من 1943 حتّى 2014، إلّا أنّ الفصول الممطرة أصبحت أكثر تطرّفًا. فالأمطار أصبحت تهطل على شكل زخّات عنيفة، سيليّة، وفي خلال وقت قصير مع ازدياد الفروقِ في توزّعها على أيّام الفصل الممطر. هذا التغيّر في النظام المطريّ، إضافة إلى ازدياد موجات الجفاف خلالَ فصل الشتاء وتراجع كميّة الغطاء الثلجيّ على الجبال (وهذا ما تؤكِّده الدراسة التي أعدّها الدكتور شربل أبو شقرا في قسم الجغرافيا- جامعة القديس يوسف)، كلّها عوامل مؤثّرة في النظام الإيكولوجيّ الخاصّ بغابات الأرز لناحية تراجع كمّيّات المياه، ونسبة الرطوبة في التربة. فتراجعُ درجة ترطيب التربة، يؤثِّر سلبًا في نموّ البذور والأشجار الجديدة، وتاليًا يحدّ من عمليّة تجدّد الغابة.
 
ومع ارتفاع متوسّط الحرارة السنويّ في لبنان بنحو 2,5 درجة مئويّة (وذلك بحسب دراساتنا) في خلال الفترة الممتدَّة من 1964 حتّى 2014، بدأت المساحة البيئيّة المناسبة لنموّ أشجار الأرز بالانحسار، كما بدأ نطاقُها الطبيعيُّ بالتغيّر. فإلى جانب رطوبة التربة، تحتاج البذور إلى البرودة لكي تنبت. لذلك، ستزحف هذه الأشجار في المستقبل إلى ارتفاعات أعلى لتَلْحقَ بالشتاء البارد والرطب الذي تحتاجه. لا مشكلة في ذلك بالنسبة إلى غابات الأرز الموجودة في شمالي لبنان، حيث القممُ الجبليّة عالية وتزيد كثيرًا عن 2000 متر، كما هي حال محميّة أرز بشرّي مثلًا، التي تقع على السفوح الغربيّة لجبل المكمل، حيث يبلغ ارتفاع أعلى قممه "القرنة السوداء" حوالى 3088 متراً فوق مستوى سطح البحر. أمّا الوضعُ بالنسبة لمحميّة أرز الشوف فسوف يكون مغايرًا، إذ لم يعد أمام أشجارها سوى القليل من الارتفاعات لتنزح إليها، فقمم جبل الباروك لا يتخطّى إرتفاعها 1946 متراً.
 
بدوره، أدّى التغيّر المناخيّ إلى انتشار العديد من الآفات الحشريّة الضارّة بغابات الأرز، وتحديدًا "حشرة السفلسيا". هذه الحشرة هي نوع من أنواع دبابير الأخشاب، تستهدف أشجار الأرز الأصغر سنًّا. تضع البيوض في براعمِها، وعندما تخرج منها اليرقات تتغذّى على أوراقها الإبرية وتعيشُ عليها، من ثَمَّ تسقط على الأرض وتدفن نفسها لتمضيَ فترة من السبات قبل أن تعودَ للظهورِ مرَّةً أخرى. في أواخر تسعينيّات القرن الماضي (1997 - 1998)، رصدها الخبير في علوم الحشرات والأحراج الدكتور نبيل نمر، وتحديدًا في غابة أرز تنّورين، إذ تسبَّبت بموت الكثير من أشجارها. فتراجعُ البرودة نتيجةَ إرتفاع درجات الحرارة بشكل واضح بدءًا من عام 1994 (وذلك بحسب دراساتنا) بالإضافة إلى تراجع كميّة الثلوج على الجبال (كما سبق وذكرنا)، قد أدّيا بشكل مباشر إلى تكاثر هذه الحشرة بشكل أكبر من معدّلها الطبيعيّ.
 
التغيّر المناخيّ نفسه الّذي أثّر في غابات الأرز من خلال تبدّل أنماط الطقس وتكاثر حشرة السفلسيا، أدّى أيضًا إلى توفير كلّ العوامل الأساسيّة لاندلاع الحرائق بشكل ملحوظ ومتكرِّر في لبنان. فموسم الجفاف أصبح أطول، يمتدّ في كثير من السنوات حتّى شهر تشرين الأوّل، مترافِقًا مع درجات حرارة فوق معدّلاتها الموسميّة، وانخفاض واضح في نسبة الرطوبة الجويّة نتيجةً لتأثير الرياح الشرقيّة الجافّة...
 
يتكرَّرُ مشهد الحرائق سنويًّا في لبنان، إلّا أنّ سلسلة الحرائق التي شهدناها في السنوات القليلة الماضية، وبخاصّة خلال موسم 2020، قد سجّلت أرقامًا صادمة لم يسبق أن حصلت من قبل. إذ وصلت الحرائق إلى غابات مغطّاة بأشجار الأرز لم تكن تصلها سابقًا. وقد سبق أن حذّر من ذلك معهدُ الدراسات البيئيّة في جامعة البلمند، وبمشاركة الدكتور جورج متري منذ العام 2012، بعد دراسة خلصت إلى أنّ الجرود والغابات المرتفعة ستكون في العام 2020 أكثر جفافًا، وتاليًا أكثر عرضة للحرائق. والخطورة هنا، تكمنُ في أنّ غابات الأرز، ومن الناحية العلميّة، من الصعب أن تتجدّد بشكل طبيعيّ بعد تعرّضها للحرائق، وذلك بخلاف بعض الأشجار الأخرى كالصنوبر والسنديان...
 
وأمام هذا الواقع الخطير، وبما أنّه لا يمكننا إيقافُ التغيّر المناخيّ أو منع حدوثه، علينا العمل على التخفيف من أضراره، لنحافظ بالحدّ الأدنى على ديمومة غابات الأرز في لبنان. لذا، لا بدّ من وضع خطط تحاكي المستقبل، وتطبيق بعض الإجراءات الفوريّة في الوقت الحاضر. ليست جميع الحلول سهلة، لكنّها في الوقت نفسه مُمكنة... وما نحتاجه على أرض الواقع، يتطلّب تضافرَ الجهود بين كلٍّ من القطاعين العامّ والخاصّ من وزارات مَعنيّة، ومتخصّصين، ومجتمع مدنيّ...
 
بداية، يتطلّب الأمر مزيدًا من البحوث المناخيّة، التي ما زالت حتّى اليوم قليلة في لبنان. هذه البحوث يجب أن تطولَ بالدرجة الأولى كلَّ النطاقات الطبيعيّة التي تنمو فيها غاباتُ الأرز. ولتحقيق ذلك، نحن بحاجة إلى إنشاء محطّات للرصد الجويِّ في هذه النطاقات، إذ لا يزال عددُها ضئيلًا جدًّا لا بل معدومًا في بعضٍ منها.
 
من إيجابيّات هذه الخطّة، أنّنا سنصبح قادرين على دراسة المناخ المحلّيّ وبشكل دقيق، لنطاقات وجود أشجار الأرز، إلى تتبّع مسار التغيّرات المناخيّة الحاصلة فيها واتّجاهاتها، وبخاصّة في ما يتعلّق بالمتساقطات، والحرارة، وسماكة الغطاء الثلجيّ ومدّته وعدد أيّام هطوله. وإذا ما تحقّق ذلك، استطعنا في المستقبل الإجابةَ عن بعض الأسئلة التي تُعَدُّ ضروريّة في عمليّة التكيّف، من نحوِ: أين نزرع أشجار أرز جديدة؟ وما الارتفاعات المناسبة؟ فتحريج المناطق المجاورة للغابات، واستصلاح مساحات حرجيّة جديدة مهمّان جدًّا في ظلّ تراجع عمليّة التكاثر الطبيعيّ للغابات الموجودة، وذلك للأسباب التي أوردناها سابقًا.
 
أمّا بالنسبة إلى مواجهة حشرة السفلسيا فمكافحتُها الفوريّةُ تتطلّب استخدام مُبيدات بيولوجيّة (غير كيميائيّة) لتجنّب إلحاقِ الضرر بالبيئة. لكن، ومع التغيّر الدائم لفترة السبات التي تقضيها هذه الحشرة قبل أن تخرج من جديد للتكاثر، نتيجة الظروف الملائمة التي وفّرها لها التغيّرُ المناخيّ، يصعبُ تحديد فترة الرشّ الملائمة، ناهيك بالمناعة التي يمكن أن تكتسبها ضدّ هذه المبيدات من جيل الى آخر مع مرور الزمن. وبما أنّ استخدام الموادّ الكيميائيّة القويّة ممنوع بحسب قانون الغابات، يجب اللجوء، وبحسب الدكتور نمر، إلى الحلول الطبيعيّة، أي البحث عن الأعداء الطبيعيّين لهذه الحشرة، كبعض الطُفَيليّات وأنواع معيّنة من الفطر. وفي ضمن هذا الإطار، أجرى أصحاب الاختصاص ولا يزالون، العديد من الأبحاث لتحديد الأنواع المُثلى منها. يضاف إلى لائحة الأعداء الطبيعيّين لحشرة السفلسيا، وبحسب المتخصِّص بعلم الطيور البريّة وبيئتها الدكتور غسان جرادي، بعض الطيور التي تقتلها كالقرقف أو ما تسمّيه العامّة "سنّ المنجل"، ما يوجب المنع المطلق للصيد من وزارة البيئة.
 
كما يمكننا الإستفادة من المصائد الفرمونيّة إلى جانب هذه الحلول المُقترحة سابِقًا. ويعود الفضل في كلّ ما حصلنا عليه من تطوّر في هذا المجال، إلى عالِم الحشرات الفرنسيّ جان هنري فابر، الذي توصّل من خلال دراساته إلى أنّ الحشرات تفرز موادّ كيميائيّة تُدعى بالفرمونات، تُستعمل كوسيلة لانتقال المعلومات بين أفراد النوع الواحد. ولعلّ أبرز هذه الفرمونات هو الفرمون الجنسيّ الذي تفرزُه غالبًا الإناث، ويستقبله الذكور من أفراد النوع الواحد، بغرض التزاوج والتكاثر. هذا الفرمون يمكن استخدامه لمكافحة حشرة السفلسيا، فبعد تحديد تركيبه الخاصّ بها، يمكن من خلاله جذب ذكور الحشرة وتصيّدها على شريط لاصق، شبيه بالأفخاخ اللزجة الصفراء (أو ما يسمى بالمصائد البصرية) المستخدمة حاليًّا في محميّة أرز تنّورين. كما يمكن اعتماده للتشويش على الإتصالات الكيميائيّة في ما بين الذكور والإناث، وذلك بنشر الفرمون الصناعيّ، غير السامّ للإنسان والحيوان والنبات، بكثرة في الغابة، فتتشبّع حينها بالإشارات الكيميائيّة، ويستحيل عندها على الذكور معرفةُ مكان الإناث لتلقيحها وتاليًا نحدّ من تكاثرها. هذه الطريقة تصبح غير فعّالة فقط في أثناء وجود الرياح الشديدة التي تمنع أيّ تركّز عال للفرمون الصناعيّ في الغابة.
 
بالتوازي مع الحلول المقترحة سابقًا، يجب وضع خطّة رسميّة حديثة لتنمية الغابات في لبنان وحمايتها من قبل الدولة. هذه الخطّة عليها أن تتماشى مع التحدّيات البيئيّة المعاصرة، آخذة بعين الاعتبار التحديث والتطبيق الكاملَين لكلّ من الاستراتيجيّة الوطنيّة لإدارة حرائق الغابات التي وُضعت عام 2009 وللتوصيات التي صدرت عن ورشة عمل إدارة الكوارث الطبيعيّة عام 2003، ولقانون الغابات الصادر عام 1949، إضافة إلى تفعيل عمل هيئة إدارة الكوارث التي أُنشئت عام 2012.
 
وبما أنّ حماية البيئة، لا تقع مسؤوليّتُها على عاتق الدولة فقط، بل على كلّ فرد من أفراد المجتمع أيضًا، تبرز أهمّيّة العمل على تحفيز الوعي البيئيّ عند المواطنين، وبخاصة أنّ العوامل المناخيّة وعلى الرغم من توفيرها الظروف الملائمة لاندلاع الحرائق، ليست هي السببَ الرئيسَ لبدئها في كثيرٍ من الأحيان. فالإنسان من خلال سلوكه السيّئ (رمي أعقاب السجائر، وأعواد الثقاب، والعبوات الزجاجيّة في محيط الغابات) وإهماله (إشعال النار داخل الغابة أثناء التنزّه، وعدم إطفائها قبل المغادرة...) كان سببًا لزوال الكثير من المساحات الخضراء في لبنان، ما يجعل حملات التوعية أكثر ضرورة.
 
على أمل التحرّك السريع لقطع الطريق أمام كلّ خطر يهدّد غابات لبنان المختلفة الأنواع، نظرًا إلى ما تمثّله من أهمّيّة إيكولوجيّة، هيدروجيولوجيّة، مناخيّة وإقتصادية - إجتماعيّة، يطرح السؤال الآتي نفسه على المدى البعيد: هل غابات الأرز في لبنان، التي صمدت منذ الآف السنين في وجه العوامل الطبيعيّة، والحروب، وجشع الحضارات، ستنجو من التغيّر المناخيّ العالمي؟!
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم