الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

6 عادات رمضانية غذائية تغيب عن المائدة الطرابلسية... "المحروم يتسامى بالصوم"؟

جودي الأسمر
جودي الأسمر
فتة الحمص لم تعد ضيفاً يومياً على المائدة الطرابلسية.
فتة الحمص لم تعد ضيفاً يومياً على المائدة الطرابلسية.
A+ A-

يستبعد زياد شرف، صاحب دكان في طرابلس، أن يتحسّن إقبال الزبائن ليبلغ الحركة المعتادة في شهر رمضان. ويشير البائع إلى رفوف تعرض ألواح شراب قمر الدين وعلب التمر، وهي أصناف مرافقة لسفرة الصائمين. "لكن لا أحد يشتريها. صار الزبون يأتي بورقة يسجل عليها نواقص من أساسيات السفرة"، ويقتطع حديثه مرور سيّدة لشراء مكعبي مرق دجاج بألف ليرة، مستفيدة من العرض.

 

في شارع قريب من ساحة الكورة، لم تعد "حلويات صبيح" تزدحم بالناس، الذين عادة ما يقصدون المحلّ لشراء أصنافهم المفضّلة بأسعار مقبولة، ومنها "كربوج رمضان" المشتهَر بتحضيره. يقيّم لنا أحد الموظفين "تراجع المبيعات بنسبة 50%، لأنّ الأسعار قفزت ثلاثة أضعاف بسبب غلاء الموادّ الأولية، فبلغ سعر كيلو كربوج الجوز مثلا 55 ألف ليرة".

 

6 عادات مهدّدة

نتيجة تضخّم أسعار الموادّ الغذائية وانحلال القدرة الشرائية للّبنانيين بنسبة تجاوزت 85%، قد ينطوي انخفاض استهلاك التمور والعصائر والحلويات على ضمور طقوس ذات أبعاد دينية، نجدها في سنّة نبويّة تقضي ببدء الإفطار بالتمر، أو أخرى غذائية يجزي الصائم نفسه بها بعد حرمان. إلّا أنّها مكوّنات ضمن صورة أعمق، تشي بانزياح عادات اجتماعية غذائية لطالما اشتهرت بها طرابلس خلال هذا الشهر، تورد المراجع أهمّها على النحو الآتي:

 

- التموين والتفريز: قبل تحرّي هلال رمضان وخلال الشهر، تزدحم الأسواق بالمتمونين الذين يحضرون معهم لوائح طويلة، سجّلوا عليها أصناف اللحوم والخضار والبقوليات التي يحتاجون إليها لأسابيع مقدماً. ومن أبرز هذه الأسواق الغذائية، سوق العطارين وصولاً إلى بركة الملاحة، وسوق حراج وسوق القمح. وتجتهد ربات المنزل بتوضيب الخضار واللحوم في الثلاجات ضمن حصص صغيرة لاستهلاكها سريعاً، إلى جانب أقراص الكبّة والمعجّنات المحضرة سلفاً.

 

- السكبة: يقضي هذا التقليد بتوزيع جزء من الطعام أو معظمه على الجيران والأقارب، قبيل أذان المغرب، فيحمل الفتيان أواني الطعام لتقديمها إلى عائلات من الحيّ، تمتيناً للأواصر، وهبةً عن روح الموتى. والصحن لا يعود فارغاً في اليوم التالي، وقد تتزين موائد الإفطار في الحيّ الواحد بالمأكولات نفسها أحياناً.

 

- الفتة: يتصدّر صحن الفتة إفطارات طرابلس، ويحضّر من خلال الحمص المسلوق مع المرق، يضاف إلى الخبز المفتت المحمص، ويغطّى باللبن الممزوج بالطحينة والحامض والثوم. ويُحضَّر قبل دقائق من موعد الإفطار ليبقى ساخناً بعد أن يسكب السمن المغليّ فوقه، ويزيّن بالصنوبر والمكسّرات المحمّصة.

 

- الحلويات: كان ربّ الأسرة لا يبخل على عائلته بصحن حلو مهما ارتفعت الأسعار. ومن حلويات طرابلس الرمضانية ورد الشام، والكربوج، والبصمة، والقطايف بقشطة التي كانت تمتاز بسعر معقول يدفع محدودي الدخل إلى شرائها. وكان صحنا المهلبية والأرزّ بالحليب الأكثر شعبية، بعدما سادت أقراص البرازق وغزل البنات وأصوات باعتها الأسواق القديمة. 

 

- العصائر: يولي الصائم عناية خاصّة بالعصائر، التي تنتشر ألوانها المغرية على بسطات الشوارع الشعبية. ومن هذه العصائر التوت والخروب والسوس والجلاب والأفندي والليموناضة وعصير البرتقال. أما شراب قمر الدين، فيشكل العلامة الفارقة، وهو منقوع المشمش المجفف الذي يروي عطش الصائم، ويقي الجسم الإنهاك لغناه بالحديد والكالسيوم والفيتامينات.

 

- دعوات الإفطار: يحرص الطرابلسيون على تبادل الدعوات لتناول طعام الإفطار مع الأقرباء والأصدقاء ليتشاركوا الزاد، يحدوهم إلى ذلك الحديث النبوي الشريف عن أجر من أفطر صائماً في رمضان. ويروي مخضرمون، أنّ المارّ في أحياء طرابلس قبيل المغرب كثيراً ما يصادف أرباب أسرة يقفون على أبواب منازلهم، يقتنصون وفود مفطر إلى مائدتهم. عادة متأصلة تنمّ عن كرم الضيافة ولطف المعشر وحبّ الآخرين.

 

اجتماعياً: إكراه على الحرمان

وإذ يذكّر الصيام بحرمان المحتاجين، ويمثّل مناسبة للزهد بالعالم المادّي ولذائذه، يستأنس كثير من الصائمين بهذا الجانب الإيماني، بعدما حملتهم ظروف الغلاء إلى معايشته خلال رمضان الجاري، فتخلّوا عن تقاليد غذائية كان بعضها يشكل عادات اجتماعية في طرابلس.

 

مع ذلك، تلفت الباحثة في علم الإنثروبولوجيا، الدكتورة مها كيال، إلى أنّ "تبسيط مائدة رمضان هي من الإيجابيات المفروضة. وينبغي التمييز بين عادات إيجابية، يعتنقها الفرد بقرار طوعي وإيماني والبعض لهدف بيئي من جهة، وتلك التي يمارسها الفرد لأنها مفروضة عليه. تقليص مائدة رمضان، هو أحد تجليات العالم المادّي الذي نفقده من حولنا، سواء المأكل أو المشرب وغيرهما من مظاهر الحياة. وتولد هذه العوامل ضغطاً نفسياً كبيراً، وتُشعر الفرد بالنقص والقهر، لأنه حرمان خارج عن إرادته، بموجب نظم سياسية تفرض عليه التأقلم".

 

ويبدأ هذا الاضطراب "منذ دخول المواطن إلى السوبرماركت، فيجيل نظره في الأصناف ويعجز عن شراء حاجاته، التي تصنع مجاله وهويته، من خلال ما يحبّ، مثل المأكولات التي كان يحرص على تحضيرها في الإفطار وأخذت بالزوال".

وتصف الباحثة هذا التخلي عن المأكولات بأنه "ليس دليل صحّة بل قبول القهر. وبالإمكان رصده حتى على شكل النكات، التي أصبحت تشبّه الحلويات بالجواهر، وفي استعراضها تطلّع لاقتناء هذه السلع وإقرار بالعجز عنه".

وترى كيال أنّ "شبكات التواصل الاجتماعي وضعت الناس في عالم مفتوح يمكّنهم من رؤية نمط عيش لا يستطيعون تحقيقه، فيتضاعف شعورهم بالحرمان لأنّ إمكاناتهم لا تخوّلهم التماهي مع الآخر، وهم يشعرون بأنّ الأسوأ في انتظارهم".

 

في ضوء هذه المعادلة، "لحسن الحظ أنّ كورونا لا يزال موجوداً، لأنّه يقيم ضبطاً للمقارنات بين مختلف شرائح المجتمع، التي لم تعد تتبادل الدعوات والتهنئة بالأعياد كما في السابق. لذلك نجد من الإيجابيات التي وفّرها الحجر، أولاً التستّر على "فضائح" الوضع الاقتصادي الذي خفض مستوى الضيافة. ثانياً، لم يعد الناس، بحكم انحسار الزيارات، على تماسّ مع عائلات أخرى لا تزال تنعم بظروف معيشية وفيرة".

 

اقتصادياً: تمدّد الفقر

وفي الخلفية الاقتصادية لهذا الاختناق، يقول سامر الحجار، أستاذ الاقتصاد في جامعة البلمند، بأنّ "ثقافة التشارك التي تزدهر في طرابلس خلال رمضان، صارت قدرتها ضئيلة جداً، وقد خسر العاملون 85% من قدرتهم الشرائية، وتخطّت البطالة معدلات 60% بين الشباب وفق أرقام (الإسكوا). وقبل ثورة تشرين، كان 52% من السكان غير قادرين على الوصول للخدمات الطبّية ودخول المستشفيات".

 

وفي خصوصية قمع السلوك الاقتصادي لدى المواطنين في رمضان، يذكّر الأكاديمي بأنّ "المياومين حرموا أشغالهم منذ انتشار كورونا، وهم يشكلون شريحة واسعة من القوى العاملة. كما أنّ اقتصاد المدينة قائم على التجزئة، بالاعتماد على المحالّ التجارية والسياحة المتمثلة غالبيتها بالمطاعم. أما أرقام تسجيل الشركات في غرفة التجارة والصناعة فآخذ بالتضاؤل، فيما سجّلت إقفال 350 مؤسسة تجارية في صيف 2020".

 

وإذ تعبّر طرابلس عن "إطار جغرافي واسع وديموغرافيا كبيرة"، يخلص الحجار إلى أنّ "مشاكل الفقير في طرابلس صارت مشاكل المدينة في كلّ الأيام، فكيف بنا خلال رمضان؟". فـ"فيما كانت طرابلس تضم 4 عشوائيات، في أحياء التنك والشلفة والمنكوبين والغرباء، يمكن القول بأنّ أزمة العقارات والسكن كشفت اتساع رقعة الفقراء، ومخاض تحوّل طرابلس بأسرها إلى حزام للبؤس".

 

 

 

 

 

 

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم