السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"مرساة" للطفل والأم: أحياء مهمّشة في طرابلس تقاوم ضغوطات كورونا والإدمان

جودي الأسمر
جودي الأسمر
من نشاطات الأطفال في "مرساة".
من نشاطات الأطفال في "مرساة".
A+ A-

تنشغل الطفلة ميرا وسط رفاقها، بتطريز رسم النحلة على الطارة، فيما تسترق النظر الى طاولة بقربها، حيث تتبارى مجموعة على الشطرنج. تهمس لنا: "سأنتقل إليهم!".

أطفال يلعبون معاً وبأيديهم، مشهد بسيط بات شديد التعقيد بعد انتشار كورونا. لكنه يشكل واحداً من صباحات مركز "مرساة" المجتمعي، حيث تعلو في الردهة أصوات الأطفال المغتبطين بـ"إنجاز" ملموس خارج الشاشات الافتراضية. في الغرفة المجاورة، تتحاور مجموعة أمهات، للتنفيس عن أثقال اليوميات، ويكتسبن أساليب آمنة وصحّية للتعاطي مع الأولاد، في ظل الحجر ورواسبه الذي أنتج ضغوطات نفسية جمّة، تتجلى أخطر نتائجها في ارتفاع العنف الأسري بنسبة 96.5% عام 2020، وفق أرقام وزارة الداخلية.

في هذه المساحة التشاركية التي تنمّي ذكاء الأطفال المتعدد، عيّنة من تدخّلات المركز منذ إنشائه سنة 2019، من خلال شراكة بين "منظمة الهجرة الدولية" و"مؤسسة الصفدي".

ولا يشذّ "مرساة" عن وضع إشكالي وطني يحتاج إلى تكثيف المبادرات، لـ"زيادة دعم البرامج النفسية - الاجتماعية والصحّة العقلية، وتقديم أنشطة الدعم النفسي - الاجتماعي، بهدف مساعدة الأطفال وعائلاتهم على تخطّي الإجهاد وعبء الإقفال العامّ، ومعالجة التداعيات السلبية مثل العنف المنزلي"، كما توصي "جمعية إنقاذ الطفل"، في تقريرها "تجربة الأطفال والشباب والشابات مع كوفيد-19 في لبنان"، الصادر في أيار 2020. وتستند إلى طلب 40% من أطفال لبنانيين وسوريين وفلسطينيين محور الدراسة، الحصول على دعم نفسي - اجتماعي.

 
 تصدٍّ للمخدرات والعنف الأسري

يشغل "مرساة" مساحة من مبنى تراثي جميل من الزاهرية. نقطة استراتيجية تتوسط طرابلس القديمة ويسهل قصدها من باقي الأحياء، بهدف الاستفادة من جلسات وورش دعم. ما يسهم بتحقيق بيئة آمنة للسكان، وأكثر شرائحها هشاشة هم الأطفال والنساء، ليتمتعوا بصحّة نفسية متوازنة، باتت صعبة المنال، بدون مقاربة أسرية علمية تتصدى للتحديات المتجذّرة والمستجدة، التي يفاقمها الحرمان.

نرصد أثراً في قصص أب وأم يتمكنان من احتواء مشاكلهما الأسرية.

أبو العبد، المياوم في فرن ويقطن في القبة مع زوجته وولديه، يخبرنا بالآتي: "من خلال دورة التوعية بإدمان المخدرات التي عقدتها هنا جمعية "أم النور"، استطعت إقناع ابني عبد الرحمن بالابتعاد عن أجواء التعاطي بعد تورّط أحد أقرانه، ناهيك عن تفشّي هذه الآفة في منطقتنا. أشعر بالرضا لأنني استطعت حماية ابني". وبدل الغرق في خطر الشوارع "يستمتع بلعب كرة القدم مع شبيبة الحيّ. واقتنع بملازمة أصدقائه الذين يدرسون التمريض مثله في المهنية". كما أنّ "تدخّل المركز جنّبني خلافات لطالما كانت تنشب مع الأم لاختلافنا في أسلوب التربية".

وتدخل باسمة الأم لأربعة أطفال، بضحكة ساطعة تروي قصتها "أتكلم أم أغني؟ لست أجد تعبيراً أجمل من الغناء"، فـ"قبل ترددي إلى المركز، كانت حياتي فراغاً. روتين الأولاد، و"الأونلاين" بخليوي واحد، والطبخ، والوقوف عند طلبات زوجي العاطل من العمل. ازدادت المشاكل وعلا صراخنا، بسبب تدهور معنوياته وعصبيتي المفرطة". لكن "تعلمت السيطرة على غضبي، من خلال وسائل تفريغ زوّدني بها الاختصاصيون النفسيون، وكذلك حصص الفنون: الرقص والرسم والتمثيل والغناء".


 والتزمت باسمة دورات التطريز، فهي المعيلة وحدها أسرتها المتعثرة اقتصادياً، بفضل بيع منتجاتها في مركز "طارة وخيط" التابع للمؤسسة.

التصدي لظروف "كورونا"

يضمّ "مرساة" غرفة للدعم النفسي الفردي، ومكتبة للأطفال، وغرفة تدريبات، نسّقت بذوق فني يحافظ على الطابع التراثي للمكان ويمنح روّاده انطباعاً بالراحة.

"كل تفصيل مدروس. فجمال المكان يعزّز شعور الفرد بالانتماء، في ظلّ تأزّم العلاقة بين الفئات الأكثر حرماناً وبيئتهم"، وفق خالد حنوف، مدير البرامج في "مؤسسة الصفدي".

ويعزّز فكرته كون "المرساة" اصطلاحاً، "ثقل في البحر يمنع الانجراف ويساعد على مواجهة الريح"، فتمنح تجسيد الملاذ والدعم للنّاس في مواجهة الأزمات الغادرة.

يضيف المدير: "نسعى لتوطيد الشراكة مع السكّان والجمعيات المحليين، لأنّ الوجع مشترك. ونحن نؤمن بالتنظيم المجتمعي لاستبطان حلول الأزمات وتطبيقها"، مشيراً إلى انطلاقة جديدة للمركز بعد الإقفال العامّ.

في سياق مرتبط، تشير مديرة "مرساة" سمر جمّول، إلى أنّ "تدريب النساء على مهارات التواصل، يندرج في رأس أولويات دعمنا النفسي - الاجتماعي، بعدما لمسنا أنّ الحجر الصحّي عاق التواصل السليم بين الأمهات والأبناء بسبب الضغوطات النفسية التي يعانيها الطرفان. والأمهات في المناطق المهمّشة أكثر ما يعانين العجز عن مواكبة الأطفال في "الأونلاين"، بسب قلّة الموارد المادّية وأحياناً انخفاض مستواهنّ التعليمي".

ويثبت أنّ "الحوار ومشاركة التجارب بين الأمهات يؤتيان ثمارهما، سواء عبر التفريغ أو اجتراح الحلول"، فـ "في نهاية الجلسة، تشعر الأم بأنّها ليست بمفردها، وأنّ أولاد رفيقاتها يواجهون الضغوطات النفسية ذاتها، ما يمهّد لتقريب وجهات النظر وتحسين التواصل ضمن الأسرة".


حظوظ الاستدامة

واقع الحال، أنّ المراكز الاجتماعية غالباً ما تواجه معادلة صعبة: مشاكل هائلة وموارد محدودة. لكنّ التنمية تراكم يلزمه الصبر والجدّ. هل سيسلك "مرساة" هذا الاتجاه؟ يبدو الرهان واعداً، في ضوء نجاح واستمرار مركز "شبابنا" في محلة السويقة منذ سنة 2004، من خلال مقاربة مماثلة انتهجتها المؤسسة.

نلتقي عمر (40 سنة) أحد قدامى "شبابنا" وقد أصبح اليوم ربّ أسرة، ولازمه حبّ التطوع منذ 17 سنة: "أنا من سكان باب الرمل وأوائل المنضمين إلى المركز. بعد استفادتي من تجربة عززت ثقتي بنفسي وأكسبتني اللغة الإنكليزية، إضافة الى مشاركتي في مبادرة "أدراج التغيير" لتأهيل درج منطقتنا، وانخراطي في حملات التوعية، ما زلت أهتمّ بمواكبة الأفواج الجديدة المنضمة، بالنصح والإرشاد والتوجيه، كما أنشأنا صندوقاً لدعم مبادرات الحيّ".

تبدو تجارب أبو العبد، وباسمة، وعمر، وإعداد الأطفال خارج فقاعة كورونا، دليلاً على أنّ التغيير ينطلق من قاعدة الهرم المجتمعي، من خلال صقل وعي المواطنين وتعزيز قدراتهم ليصنعوا هم الحاضر والغد. فـ"الاستقلالية"، بما تناقض التبعية، سلاح ضدّ الرهانات الخاسرة المعقودة على الخيارات السياسية، وانطلاق نحو فضاء الممكن، وفضيلة لا تُجتَزأ.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم