الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

يلازم مكتبته منذ خمسين سنة لنشر حب القراءة... الأب سرّوج: المهم أن يغادرني السائل فرحاً

جودي الأسمر
جودي الأسمر
الأب ابرهيم سرّوج (مارك فيّاض).
الأب ابرهيم سرّوج (مارك فيّاض).
A+ A-

يحدّق الأب ابرهيم سرّوج في شاشة الكومبيوتر، باحثًا عن رواية "العمى" لساراماغو، فيجد للكاتب البرتغالي روايات أخرى من عدة دور نشر، من ضمن أكثر من 106 آلاف كتاب تضمّه مكتبته "السائح" التي تبيع وتنشر الكتب بمبالغ زهيدة، لا يكترث "الأبونا" بأرباحها، فـ"المهمّ أن يغادر السائل فرحًا وأن يزداد حبًّا بالقراءة".


(تصوير مارك فيّاض).


تشبه "السائح" جوهرة داخل ركام، تنفض الغبار عنها خطى زائر. فمن غير السّهل أن ينتبه المشاة إلى وجود هذه المكتبة الضخمة والعريقة
؛ تتوارى في زقاق قديم في شارع "السرايا العتيقة" في طرابلس، بين محالّ الثياب المستعملة وخلف مبنى تراثي عثماني مهجور تحوّلت باحته إلى موقف للسيارات.

(تصوير مارك فيّاض)


(تصوير مارك فيّاض).


(تصوير مارك فيّاض).

وكان الخوري الأورثوذكسي (79 سنة) قد اختار منذ العام 1972، خلال تطوّعه في "حركة الشبيبة الأورثوذكسيّة"، أن يصبح جارًا للجامع المنصوريّ الكبير، فأنشأ مع رفيقين له "السائح" التي  تعطي نموذجًا عن التعايش الإسلامي- المسيحيّ في طرابلس، من خلال رجل دين يعرفه الكثيرون بـ"المسلم الأورثوذكسي"، ركن إلى هذه الصومعة  ليسترسل في التنوير عبر الكتاب.

فبعد دراسته اللاهوت في الولايات المتحدة الأميركية في معهد تابع للكنيسة الروسية، أصبح ابرهيم سروج  كاهناً في رعية القديس جاورجيوس ولا يزال. ثم سافر إلى فرنسا ليحصل على دكتوراه في اللاهوت، ليعود إلى طرابلس ويؤسس عالمه "السائح" لنشر حبه للكتاب والإنسان.

(تصوير مارك فيّاض)

يقف الأب سرّوج في مكتبته التي يضيئها نور خافت، متحدّثًا عن محاولته لمواكبة الحداثة، فاجتهد في إدخال بيانات الكتب على الكومبيوتر "تستغرق العملية لدي شهورًا طويلة، ولا يزال جزء من الكتب غير مصنف".  في المقابل، كثيرًا ما تأكد الأبونا من أن مكتبته تضمّ كتابًا معينًا، برغم أنه غير مدرج في "السيستم"، ليهتدي إليه بحدسه أو ذاكرته بين مئات الرفوف وآلاف الكتب.

وعلى مساحة 600 متر مربع، تنتشر الكتب في مساحة المكتبة، في فوضى تكرس إحدى أهم ميزات "السائح"، كأنها تمتلك جاذبًا يعيد الزائر الى فضوله الفطري وتوقه للمعرفة. ومن يتجوّل في "السائح" يفاجأ بفسحة خارجية مشمسة، تضم مزيدًا من الكتب، تتوسّطها شجرة أكيدينا وكرسي خشبي "قد يوحي بأنّه هشّ لكنّني أتمدّد عليه من حين لآخر".


(تصوير مارك فيّاض).


(تصوير مارك فيّاض).


(تصوير مارك فيّاض).


ونادرًا ما يبقى الأب سروج وحيدًا في مكتبته - يعينه أحد أولاده الخمسة ويحبّه الشبيبة، فيقصده البعض لساعات وأيّام طوال، يساعدونه أو يتبرّكون بمعرفته الموسوعيّة ولغته الفصحى التي يستخدمها بيسر ليخاطب الناس، ومن بينهم الشّاب الجامعيّ نور الّذي يتابع دراسته في العلوم السياسية "شاب آدمي، سخّرنا الله لخدمة الناس بكل سرور"، يقول الكاهن، قبل أن يتابع معه مناقشة مقدّمة لكتاب عن ابن حزم الأندلسي.

ويلاحظ أنّ "جزءًا يسيرًا من الشباب يقصدون المكتبة بحثًا عن مراجع جامعيّة، وكثيرون يفضّلون أن لا ينفقوا مصروفهم على المطالعة"، مستطردًا "مساء أمس، دخلت صبية تسأل عن كتاب "الجريمة والعقاب" لدويستوفوسكي، وكان سعره 20 دولاراً وفق تسعيرة دار الفارابي. حاولت تشجيعها بدفع 20 ألفًا، وتستطيع أن تدفع المبلغ المتبقي بعد إتمامها قراءة الكتاب. خافت السعر وتركت المكتبة"، في ردّ فعل  يشي بتبدل الأولويات الشرائية لدى الناس، بفعل تضخم الدولار الذي شكل ضربة قاسية لقطاع الكتب والمكتبات.

في السّياق، يشير صاحب المكتبة والنّاشر إلى أنّ "دولار "السائح" بلغ 3000 ليرة لغاية نيسان الماضي، وهو اليوم بـ6000 ليرة"، أي أقل من نصف دولار حسب سعر السوق، ما يعدّ واحدة من أرخص التسعيرات في دور النشر اللبنانية.

ويفاجأ زائر "السائح"، سواء اشترى كتابًا أو خرج خالي الوفاض، بكتاب أو عدة كتب يقدمها الأب سروج هدية، بعد أن يسأل عن دراسته واللغات التي يتقن ونوع قراءاته ؛ يقول "أنا لا أشكو الفاقة، وأكثر من ذلك لديّ فائض كتب تتبخر بسحر ساحر".


(تصوير مارك فيّاض).


إلى جانب الكتب باللغات الثلاث، تحتوي "السائح" على مراجع يونانية نادرة وأخرى باللاتينية والسريانية التي اطلع عليها واقتناها خلال حياته الكهنوتية، بالاضافة الى
كتب حضارات قديمة، أدب، لغات، فنون، قانون، مجلات، موسوعات وقواميس، مؤلفات إسلامية ومسيحية ويهودية وأخرى عن الصوفية وديانات غير سماوية.

وحين يُسأل عن علاقته بالدين، يردّد قناعته "قل لي كيف تتصرف، أقول هذا إيمانك. الدين معاملة"، ويضيف "الأفعال أصدق إنباء من الأقوال".

ويختم الأب سرّوج أنّ الطائفية هي "مأساة الأديان ورجال الدين والناس أجمعين"، مختزلًا نظرته للأديان في قول أبي العلاء المعرّي: "صبّح وصلّ وطُف بمكةَ جاهدًا... سبعين لا سبعًا فلستَ بناسك".

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم