حرقة أهالٍ أمام مستشفى الجعيتاوي... صراخ وغضب ودموع و"لا تقولوا لي إنّه مات"

احترق الناس بوقود الفساد والإهمال وتحلّل الدولة... عكار المنكوبة! لم يكفها الحرمان والإهمال الذي يعيشه أهلها، بل افاقت على مجزرة وقعت في ساعات الفجر الأولى، من دون معرفة سببها الحقيقي. لكن ما هو معلوم ومؤكَّد، وليس بحاجة لأي تحقيق لمعرفته، هو أنّ السبب الأساس في ما وصل إليه اللبنانيون من معاناة وذلّ وسقوط ضحايا، هو وجودنا في "لا دولة".
 
كان يسود صمتٌ مخيف أمام مستشفى الجعيتاوي في الأشرفية، الذي استقبل مصابي مجزرة التليل العكارية، لكون المستشفى من بين المستشفيات القليلة في لبنان المتخصصة بمعالجة الحروق.
 
وقد توافد ذوو المصابين من مدنيّين وعسكريّين الى المستشفى ليطمئنّوا الى أقاربهم. فالمدنيّون أصيبوا نتيجة حرمانهم من المحروقات من جهة، والعسكريون نتيجة مواجهتهم المحتكرين والمخزّنين من جهة أخرى. 
 
عند باب المستشفى، تنهار سيدة وتقع أرضاً. وتصرخ باكية: "طمئنوني اليه، لا تقولوا لي إنّه مات!!".
 
لم ترغب في التحدّث. فألمها لا تعبّر عنه الكلمات، فقط نظراتها السارحة الحزينة تختصر لوعتها.
 
تصوير حسن عسل
 
خلال الانتظار الطويل، يأتي أحد العسكريين وأخته ليطمئنّا الى شقيقهما العسكري. الدمعة في عين الأخ، والغصة تخنق كلماته. "نناشد الدولة القيام بواجبها قبل أن يحصل ما لا تُحمده عقباه في البلد"، على قوله.
 
صهره، مؤهل أول في الجيش، لا يزال مفقوداً من جراء الانفجار، ولم يجدوه حتى الساعة.     
 
لا تمرّ بضعة دقائق حتى "ينفجر" العسكري غضبا. لم يتحمّل، ويصرخ عند باب المستشفى وعلى مسمع جميع مَن كان هناك: "مفتعَل، الحادثة مفتعلة". ووقع أرضا، وانفجر بالبكاء.
 
يقترب منه قريبه، وهو خال أحد المصابين أيضاً، مخفّفا عنه: "نحن محرومون، ألا يكفينا ما نعيشه من حرمان في عكار؟!! ليس هناك أي دولة".  
 
تقف أخت العسكري وتربّت على كتفه، وتوجّه صرخة يأس: "يكفي إلى هذا الحد، لم نعد نتحمل، يكفينا شهداء ودم وضحايا. أدعو الله أن يتلوّع الذين لوّعونا باللوعة نفسها. فجميع الزعماء مسؤولون، من رأس الهرم إلى أصغر موظف. ونحن في عكار، نعيش تحت رحمة السماء".
 
اضطرت عائلة العسكري إلى نقله بسيارتها الخاصة، بحسب ما تروي السيدة، وذلك لعدم توفّر سيارات إسعاف كافية. فعدد المصابين كان كبيراً جداً، و"لحسن الحظ، وللمصادفة، كانت سيارتنا مزوّدة بكمية من البنزين، وجئنا فيها إلى بيروت".  
 
تصوير حسن عسل
 
أمّا خال أحد المصابين، الأقلّ إصابة، فيروي بلوعة مآسي عكار والحرمان فيها، لا سيّما معاناة عناصر الجيش من انقطاع المحروقات، وتبعات ذلك على وصولهم الى مقرات خدمتهم في مختلف المناطق. فـ"هم مذلولون"، في تعبيره. ويروي: "لدى وصولي إلى موقع المجزرة، رأيت ما لم يكن بعد إنفجار هيروشيما. مشهد الجثث لا يوصَف، والآن يمكن أن نحدّد ذكرى 4 آب و15 آب".
 
ويتابع كلامه بأسى: "إذا أردت أن أوجّه صرخة، فأوجّهها لمَن يسمعها، لا لمَن صمَّ آذانه".
 
عسكري متقاعد كان يجلس بعيداً. بدوره، جاء يتفقّد شقيقه العسكري المصاب إصابة حرجة، ويعالج حالياً في العناية الفائقة. يتحدّث والدموع في عينيه: "نشّف جسد أخي من الماء من بلاغة الحروق، وتورّم، وتوقّف قلبه واختنق من التورّم، وأنعشوه في اللحظات الأخيرة، وهو الآن بين الحياة والموت".
 
ويضيف :"مخزون لبنان من المحروقات كلّه يذهب إلى سوريا، ومعروفٌ مَن يغطي المهرّبين في عكار من مسؤولين وأجهزة أمنية. وجميع نوّاب عكار لهم يد في حرمان أهل عكار والتهريب، وفي المجزرة اللتي حصلت".
 
مع وصول مساعدات طبية من الجيش اللبناني، وتوافد مزيد من ذوي المصابين، يقف رجل عند مدخل المستشفى وقفة مهزوم أو مستسلم، مسندا رأسه الى الحائط. "نريد أن نعيش كما يعيش اللبنانيون في المناطق الأخرى. نحن محرومون، لماذا تجعلون الأرواح تموت قبل أوانها؟"، على قوله.
 
جانباً، يجلس آخر باكياً. ولدى طلبنا حديثاً معه، يرفض قائلاً:" لا نفسَ لدي للحديث، لن يفيد الكلام، لطالما تحدّثنا ورفعنا صوتنا منذ 17 تشرين، لكن لا حياة لمن تنادي".
 
تصوير حسن عسل
 
على خطٍّ موازٍ، يفيد المدير الطبي في المستشفى الدكتور ناجي أبي راشد أنّ "المرضى يتلقّون العلاج المناسب وفقاً لحالتهم. لكن لاستكمال الطريق نحن بحاجة إلى طاقات بشرية ومستلزمات طبية وأدوية، لأنّ المصابين بحاجة إلى عناية مركَّزة ومستمرة ومتواصلة لأسابيع، والقطاع الصحي يعاني. ونناشد جميع المسؤولين والقيّمين ومَن يملكون المقدّرات مدّ اليد". 
 
نسأله عن مخزون المازوت في المستشفى، وهل يكفي في ظل هذه الكارثة؟، يجيب: "نخوض معركة المازوت يومياً، وكهرباء لبنان لا تغذّي أكثر من ساعتين يومياً. وقد تبرّعت شركة "مدكو" بالمازوت اليوم بسبب الحالة الطارئة. لكن من الغد، علينا البحث عن المازوت مجدداً. لذلك نناشد المسؤولين حلّ هذه الأزمة بأسرع وقتٍ ممكن. فهناك مصابون في العناية المركزة والفائقة وعلى أجهزة التنفّس". 
 
وفي السياق نفسه، تنبه الأخت هادية، من كوادر الطاقم الطبي في المستشفى، الى أنّ المستشفى يحتاج إلى كلّ دعم، من مصل إلى خبز وأدوية لمعالجة الحروق.
 
من جانبها، أطلقت المديرة العامة لمستشفى الجعيتاوي الأخت هادية أبي شبلي نداءً إنسانياً عبر "النهار" من المركز الصحي الوحيد في لبنان المؤهل لمُعالجة الحروق والذي استقبل اليوم 21 مصاباً بانفجار التليل المأسوي، فيما القدرة الاستيعابية لقسم معالجة الحروق لا تتعدّى الـ9 مصابين، ما اضطرّ الإدارة إلى إخلاء طابق كامل وتجهيزه لاستقبال ذوي الوضع المستقرّ، إلى جانب قسم العناية، وتخصيص قسم الحروق إلى ذوي الوضع غير المستقرّ.
 
وأكّدت الأخت شبلي لـ"النهار" أنّ "كلفة معالجة المصاب الواحد يومياً تبلغ 800 دولار فريش تغطّي الدولة منها مليون ليرة يومياً في الأسابيع الثلاثة الأولى و750 ليرة لاحقاً".
 
  
تصوير حسن عسل

تصوير حسن عسل

تصوير حسن عسل