الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

حكاية "آخر إسكافي" في طرابلس... زكريا بشير وضحكة الأيام الخوالي

جودي الأسمر
جودي الأسمر
الإسكافي زكريا بشير. (تصوير إسبر ملحم)
الإسكافي زكريا بشير. (تصوير إسبر ملحم)
A+ A-

 نقرأ عنه في كتب القراءة والحكايا القديمة ولا نراه، حتى ظننا أن الاسكافي شخصية الورق والخيالات.

لكن، مهلاً، ها نحن نلتقي الشخص. إنه هنا، أمامنا، جالسا أمام ورشته، يرتدي مريولاً بنياً ربطه عند الخاصرة. ينفث سيجارة وباليد نفسها يحمل فنجان القهوة الصباحية. ينظر الينا كطفل لم يقاسِ ولم يعرف، بابتسامة بيضاء، تشع بالطيبة والنور.

إنه زكريا بشير، آخر إسكافي في طرابلس.

(تصوير إسبر ملحم)
 
 "كيفك زكور"... "أهلا حبيبي حوّل"، يردّ الرجل السبعيني على أحد المارة في نزلة سوق السمك، المتفرعة من باب الحديد، حيث أقام ورشته لصناعة الأحذية.

يتمنع زكريا عن المزيد. فقط سلام ودعوة كريمة وملحة لشرب فنجان قهوة "فيك تصوّر... افعل ما تريد لكن لا تكلمني"، يقول للزميل إسبر ملحم.

بطالة قسرية مفروضة عليه. الكلام صار ثقيلاً وبدون جدوى "لا يوجد عمل. منذ الثورة حتى اليوم لم نعمل. انتهت الثورة وجاءت كورونا".

لكن، مفتاح الحديث كلمة. وجه أسمر ناحل، حفر الزمن الرغيد في أثلامه روحا لا تشيخ وترك في الذاكرة أمجادا صغيرة يعكّز عليها في وطأة ما يحدث، يخبرنا "شغلي قبل كورونا كان أفضل بمليون مرة... يا عيني ما أحلاه".

بالمفهوم الاقتصادي، زكريا جزء من "وحدة انتاجية" يدوية شكلها مع شريكين في الكار، لا غنى عنهما "نحن ثلاثة في المصلحة. أنا أفصّل الحذاء، و"الدرّيز" يدرزه، و"المكوجي" يتولى الكيّ وضبط اللون. ثم أستلم الحذاء فأضيف النعل وأنتظر نشافه لأقوم بالشدشدة. إذا تعطل أحدنا تعطلنا كلنا".

 
(تصوير إسبر ملحم)
 

لا يعرف زكريا "فكّ الحرف"، على حد قوله، قراءة وكتابة. لكنه لجأ الى الحيل لتسجيل توصيات الزبائن "يأتي الزبون بنفسه ليتسلم الحذاء، بعدما أحفظ وجهه"، وحين لا يستطيع الزبون المجيء "يرسل لي شخصا لاستلام الحذاء، ويصطحب معه صورة للزبون فأعرفه".

يروي لأن لا عمل بين يديه "أجلس هنا للتسلية والله يرزق. أصنع في الاسبوع سبعة الى ثمانية أحذية، وأحيانا تمضي أيام بدون عمل".

في الأيام الخوالي كما اليوم لم تختلف التسعيرة ولكن سعر صرفها اختلف. الثابت الوحيد هو الاجرة الزهيدة التي يتقاضاها "تكلفة الحذاء 15 دولاراً و2500 ليرة أجرة يدي"، أي ما مجموعه 25 ألف ليرة سابقا. بينما اليوم، يبلغ سعر الحذاء "60 الى 70 ألفاً"، وهو سعر متدن مقارنة بالبضائع الجاهزة، إلا أن زبائنه "الدراويش" يعتبرونه مرتفعا".

زكريا أب لأربع بنات وصبي، وزوج لامرأة "عندي ياها بالدني"، يحافظ على كلّ ما أحب: عائلته، حرفته، بيته في حارة البرانية، وقبو الدواب القديم الذي صار يخزن فيه ليمون الشتاء.

(تصوير إسبر ملحم)
 

 ظروف غير منصفة أفقدت زكريا الاسكافي قيمة مادية تهدد باندثار حرفته، لكن في كلامه قيمة معنوية كبيرة يفاخر بها "الحذاء الذي أصنعه عربي في القماش والمغاط وكل شيء. في الأسواق نجد الصناعة الماليزية والسورية والصينية"، إلا أنه يشكو النقص الفادح في الحماية "لا حماية لدينا. لو نعمنا بالحماية لنمت في المحل وجعلت ابني ينام معي". ويضيف "في إحدى المرات نمت ثلاثة أيام متتالية في المحل"، مستطرداً "منذ عشرين سنة"، ويشير الى دشك عتيق، في الداخل، كان يتخذه سريرا.

بين هذا الداخل والخارج تفصل واجهة المحل الزجاجية، التي أغشاها الزمن بطبقة سميكة تحجب رؤية الداخل جيدا. ولكن لا زمن يحجب عن ذاكرة الاسكافي الأخير في طرابلس أيامه الجميلة "كان الجيب ملآناً ولا نسأل. الرزق قتلوه. كيف أخذوه منّا لا أعرف".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم