الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

حمّام "العبد" في طرابلس خارج كوكب الأزمة: مياه ساخنة وشاي وأم كلثوم! (صور وفيديو)

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
يسترخي في الحمّام. (النهار)
يسترخي في الحمّام. (النهار)
A+ A-

ملتحفاً بالأغطية، يمجّ عبد الحيّ (43 عاماً) سيجارته بعمق، ثم ينفث دخانها طويلاً في فضاء حمّام "العبد"، وهو جالس على الصوفا العالية، يُسرّح عينيه في فراغ البهو، محاولاً تفريغ رأسه المقمّط من الهموم.

وبعدما أنهى حمّامه، راح يقطف أوقاتاً صغيرة من راحة البال، حيث ينعم بالكهرباء والمياه السّاخنة وحمّام طويل، تستتبعه جلسة أمام نافورة المياه على صوت أم كلثوم، تسأل "ليه بتتجنّى كده عالحبّ ليه؟".

 

"كنت مارّاً بالسّوق، فقرّرت الاستحمام هنا. لا كهرباء في البيت، والحطب غالي الثمن، لا نستطيع الاعتماد عليه دائماً لتسخين المياه"، يشرح المواطن لـ"النهار"، فـ"عادة ما آتي من عكار لأشتري بعض اللوازم أيّام الآحاد من طرابلس، وغالباً ما أنهي نهاري بحمّام السوق".

 

في هذه الأثناء، يمارس "الكيّاس" أبو راشد آخر طقوس الحمّام، التي تقضي ببسط منشفة تلو الأخرى، استخدمها زبون في الداخل. يلفّ المنشفة على طولها، ويُلقيها عالياً فوق حبل يمتدّ بين زوايا الجدران الأربعة، فتنفرد في الفضاء، وتتدلّى بعد أن تستقرّ على الحبل.

يتباهى الرّجل بحركته المُتقنة التي يردّها إلى "40 عاماً خبرة في تكييس الرجال. أنا من الشّام، وبدأت مهنتي في حمّاماتها قبل الانتقال إلى طرابلس".

 



من الملاحظ أنّه "في الأسابيع الأخيرة، تزايد روّاد الحمّام بنسبة 40 في المئة. الجميع، لا سيّما في طرابلس القديمة، يتعذّر عليه تأمين المياه السّاخنة للاستحمام. في المقابل، تُتاح هنا خدمة حمّام متكاملة من البخار إلى التكييس والتدليك العميق"، ويُضيف: "ما يُعرف بحمّام السوق مرتبط بالعادات الإسلاميّة. سيُلاحظ المتجوّل في المدن الشامية القديمة أنّ هذه الحمّامات أنشئت بالقرب من المساجد، لتسهّل على المصلّين الاغتسال والوضوء. كما كان يقصدها بعض العاملين في التبغ والفحم والزيوت المشتعلة قبل عودتهم إلى بيوتهم".

أما اليوم، فقد عاد نشاط حمّام السّوق أدراجه إلى طرابلس، إثر فقدان الكهرباء والمياه السّاخنة، فتبدو الحال كما كانت عليه منذ نحو ثمانية قرون، تؤرّخ لتأسيس الحمّام بالتزامن مع الأسواق المملوكيّة، قبل أن يأتي من بعدُ الأتراكُ يُسقطوا على الحمّام عاداتهم، فصارت كلّ هذه الحمّامات معروفة شعبيّاً بـ"الحمّام التركيّ".

يخضع المستحمّ في "الحمّام التركي" لثلاثة مستويات من حرارة البخار "الوسط، والسّاخن، ثم الأشدّ سخونة. وأقيم هذا التسلسل التدريجيّ حتّى لا يُصاب المستحمّ بالدوار جرّاء الارتفاع المفاجىء لضغط الدم"، يشرح الكيّاس. ومثلما يدلّ الاسم، يتولّى الكيّاس فرك جسم المستحمّ بـ"الكيس الأسود"، الذي يتكوّن عادة من جلد الماعز الخشن، ويستعين بالليفة الطبيعيّة، والصابون العطريّ، الّذي ينشر روائحه الملطّخة بأطياف الزيتون والغار والورد في كلّ أقسام الحمّام.



في الداخل ثمانية رجال يستحمّون. على الجدران نقوش وفسيفساء مستوحاة من الاستحمام، في وقت تتولّى القبب ذات الزجاج الملوّن تلطيف الضوء النافذ إليهم، وتصنع من أصواتهم أصداء مرطَّبة بالمياه التي تسيل على الصدور.




"لا نجد مياهاً ساخنة في بيوتنا. إن طلبنا من الـ"وان دولار" ليفة وصابونة، سيتقاضى سعرها بالدولار. أفضّل الاستحمام هنا"، يُشير أحدهم.

"أستحمّ هنا مرّة في الأسبوع. أهمّ من عشرة حمّامات في البيت"، يُردف آخر.




ويبدو أنّ روّاد حمّام أبو العبد يقيمون حساباتهم كالآتي: "خدمات حمّام طويل مع تدليكٍ، مدّته بين السّاعة ونصف السّاعة، مع الليفة والصابونة والشاي والمياه مجاناً، أمّا القهوة والأراغيل فتبقى اختياريّة. وتكلفة كلّ هذا 120 ألف ليرة"، يشرح محمود ستّوت، القيّم حالياً على حمّام "العبد"، والذي يُحافظ على الإرث "أبّاً عن جدّ".
 


يعاني المالك مثل زبائنه: "أنا أيضاً أفضّل الاستحمام هنا. أقطن في السوق، ولا مياه ساخنة في بيتي. الحال في الحمّام أفضل، تحتاج تغذيته 40 مليون ليرة بدل المازوت، و200 دولار بدل اشتراك كهرباء. لذا يُمكن القول إنّ أرباحنا هامشيّة. نحن نتعاطف مع الفقراء، وإن رفعنا الأسعار نقتله معنويّاً قبل أن يقتله البرد"؛ ولهذا السبب "لم يخصّص الحمّام تعرفة ثابتة للنساء، كلٌّ تدفع بقدر مستطاعها. فالكثيرات من السيّدات يحجزن الحمّام كاملاً ليلة العرس، ونحن لا نستغلّ النّاس".



"ربّ ضارّة نافعة" قول يحكم علاقة حمّام "العبد" بأزمة الشتاء. يلوذ به مواطنون من طرابلس وقرى الجوار بفعل البرد وانعدام سبل التدفئة، فيجدون فيه النظافة والاسترخاء أيضاً.

"حمّام العبد" ملجأ حميم للهاربين من أشباح الأزمة. في إحدى زقاقات سوق الصاغة الطويلة والضيّقة، حالٌ استثنائية تطابق ما صوّرته ناديا تويني ذات يوم عن طرابلس، في "أسواق ضيّقة مجدولة كما تصفيفة شعر بدبابيس من السّكّر... دوماً، هنا، الزمن ضلّ طريقه".


*حقوق نشر الصّور: عدسة "النهار".

 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم