من "حركة الوعي" إلى "التغييريين" اليوم: نظرة إلى حركة التغيير اللبنانيّة

أنطوان الدّويهي

إطّلعتُ مؤخّراً على مقالة لهشام بو ناصيف يتساءل فيها عن أسباب فشل الإصلاح في لبنان على مدى نصف قرن،"من"حركة الوعي" إلى التغييريين"، على حد تعبيره. وينطلق في مقالته من كتابي "حركة الوعي"، الصادر صيف٢٠١٩(1). ويتيح لي الرد على هذه المقالة توضيح العديد من الأمورالأساسيّة في المسألة اللبنانيّة،التي تهمُّني الإضاءة عليها في هذه المرحلة التحوّليّة الخطيرة من مصير لبنان، شعباً وأرضاً وهويّة،مُشيراً في مستهل هذا الرد إلى تقديري لمقاربة بو ناصيف، خصوصاً عودته إلى "حركة الوعي" وتركيزه عليها في محاولة فهم جذور الحركات التغييرية الراهنة، ما يعبّر عن نظرة جديّة لافتة لديه لهذه المسألة، تتمايزعن سيل المداخلات والمقاربات السطحيّة التي تجتاح القنوات التلفزيونيّة والصحف ووسائل التواصل الإجتماعي. لكن لا يمنعني ذلك من إيراد النظرة النقديّة التالية إلى هذه المقاربة.


يذكر بوناصيف في مقالته ما يعتبرها نقاط التشابه بين "حركة الوعي" و"التغييريين" اليوم، ويحصرها في نقاط أربع سأعود إليها. لكن في الحقيقة، تلك النقاط الأربع ليست نقاط تشابه بقدر ما هي نقاط إختلاف. فالفارق كبير بين "حركة الوعي" (١٩٦٩- ١٩٧٦) وجانب واسع من"التغييريين" الذين ينسبون أنفسهم اليوم إلى انتفاضة ١٧ تشرين٢٠١٩ الشعبيّة، وذلك لأسباب تاريخيّة وفكريّة وقيميّة وسوسيولوجيّة عديدة، ربما لم ينتبه إليها كاتب المقالة، في ما أحسبه تصوّراً لديه بأن كل ما حدث من حركات تغييريّة في الماضي والحاضر، مشابه بعضه لبعض …ومثل هذا التعميم غير صحيح، خصوصاً في محاولة إدراك "حركة الوعي". فالتمايز عميق بين هذه الحركة وحركات التغيير الماركسيّة والاشتراكيّة والقوميّة العربيّة التي كانت قائمة في زمنها، من جهة، وبينها وبين جانب كبير ممن يُعرفون بـ "التغييريين" اليوم،من جهة أخرى.

التجربة اللبنانيّة في مرحلتيها التاريخيّتين
حين نستعرض التجربة اللبنانيّة على مدى ١٦٢ عاماً (من ١٨٦١ الى ٢٠٢٣)، تطالعنا في مسارها الطويل مرحلتان مختلفتان :
• المرحلة الأولى، مرحلة ١٨٦١-١٩٧٥، التي، بالرغم من مشكلاتها وثغراتها وأخطائها، أعطت المشرق، على مدى ١١٤ عاماً، أهمّ إنجازاته النهضويّة،والفكريّة، والمعرفيّة، والجامعيّة، والتعليميّة العامة، والأدبيّة، والفنيّة، والصحافيّة، والطباعيّة، والقضائيّة، والطبيّة-الإستشفائيّة، والمصرفيّة، والسياحيّة، وفي مجال الإستثمار في الإنسان وفي الثروة البشريّة، وعلى صعيد الإنفتاح والتفاعل مع الحداثة والعالم. كما خلقت في قلب المشرق نمط حياة فريداً، تتجسّد فيه الحريّات الشخصيّة، حريّة العيش والمُعتقد والتعبير والتربية والتعليم والعمل والتنقّل والسفر وسواها، ويكرّس قبول الإختلاف والتعدّد، ويولي أهميّة بارزة لنوعيّة الحياة البشريّة. بحيث أضحى"نمط الحياة اللبناني" حلم العرب من المحيط إلى الخليج، وتمضية بعض الأيام في ربوع لبنان أُمنية كل عربي. وأضحى لبنان مساحة الحريّة الوحيدة المُتاحة في المنطقة العربيّة وملجأ المعارضين والمضطهدين الأوحد، وباتت بيروت "منارة الشرق".


وهي إنجازات تعود في الدرجة الأولى لحيويّة المجتمع اللبناني ونُخَبه الثقافية والعلمية،أكثر ممّا تعود لمؤسّسة الدولة. وليس من المبالغة القول أنه على مدى تلك المرحلة الطويلة، وبإستثناء بلاد النيل، خصوصاً مطلع القرن العشرين (التي كان للمهاجرين اللبنانيين دور فاعل فيها أيضاً)، قلّما شهد المشرق إنجازات حضاريّة لافتة خارج الكيان اللبناني، حيث بقي معظم المُحيط مَرتعا لقسوة الديكتاتوريّات وخنق طاقات الشعوب الإبداعيّة وقمع الحريّات، ومسرحاً للتنكيل بالأصوات المختلفة والمفكّرين الأحرار والمناضلين الوطنيين،وما رافق هذا المسارمن شعارات فارغة ومن خواء فكري ومعرفي.
 


وخلافاً لما هو شائع، ليست اضطرابات ١٩٥٨، أو التحرّكات الشعبيّة نحو الوحدة العربيّة، أو الانقلابيّة نحو الوحدة السوريّة، هي أهمّ ما واجه "النموذج اللبناني" في تلك المرحلة. فالأخطر من ذلك كلّه وبما لا يقاس، كان الحصارالتركي لجبل لبنان الذي أدّى، بين العام ١٩١٥والعام ١٩١٨، إلى إبادة ثلث سكّان الجبل، في محاولة إستغلال ظروف الحرب العالميّة الأولى لخنق الهويّة اللبنانيّة. ولو انتصرت تركيّا وحليفاها في الحرب، لكانت تحققت تلك الغاية. ومن أهم تشوّهات الذات الجماعيّة اللبنانيّة أن المجاعة الكبرى شبه مُغيّبة عن ذاكرتها. فهذه الفاجعة الرهيبة هي أفظع ما واجه مجتمع جبل لبنان منذ الحملة المملوكيّة على بلاد قاديشا عام ١٢٨٣، حين جرى حرق معظم بلداتها وقراها وتدميرها، من إهدن إلى حدث الجبّة، في محاولة إبادة شعبها إبادة جماعيّة. وعلى الرغم من اختلاف الظروف والمعطيات التاريخية بين الوقائع على هذا المدى الزمني الطويل، فلا شك في أن الكثير من أعمال الاضطهاد والتنكيل، مروراً بالنهاية المأسوية لفخر الدين الثاني وعائلته وجيشه، ومروراً باليد العثمانية في مذابح الجبل ودمشق عام ١٨٦٠، وصولا إلى فاجعة"المجاعة الكبرى"، ليست إلاّ الثمن الباهظ الذي دفعه مجتمع جبل لبنان لمحاولة الإفلات التاريخيّة من الاستبداد. وهو الثمن الباهظ الذي دفعه هذا المجتمع من أجل تحقيق الكيان اللبناني وتكريسه، بتميّزه وحريّاته ونوعيّة حياته، والذي إستفاد منه جميع اللبنانيين، أدركوا ذلك او لم يدركوه. وإذا كان من إختصار لمسار مجتمع جبل لبنان(ومن ثم لبنان الكبير)،على مدى الأزمنة الحديثة من القرن السادس عشر إلى اليوم، فهو التجاذب الدائم بينه وبين أنظمة الإستبداد التي تسعى إلى تطويعه ودمجه في بُنيتها، بينما يجهد هو للإفلات والحكم الذاتي والتوق إلى آفاق معرفيّة وحياتيّة أخرى.وينبثق هذا التجاذب من موقع جبل لبنان الجغرافي كنقطة تقاطع وتواصل على شاطئ المتوسط بين أحد أطراف آسيا والغرب الأوروبي حيث نشأت الحداثة، ومن تكوينه الطبيعي كحصن وملجأ، ممّا حدّد خصوصيّة بُنيته المجتمعيّة وتطلّعاته وآفاقه.

 

• المرحلة الثانية، مرحلة ١٩٧٥-٢٠٢٣، على مدى ٤٨ عاماً، التي يمكن إختصارها بعمليّة هدم الإنجازات التي حققها "النموذج اللبناني"طوال ١١٤ عاماً، هدماً تدريجيّاً، وطمس هويته، عبر مسلسل الحروب والفتن، والاحتلالات، والانعكاسات المتوالية منذ عام ١٩٤٨لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين، وموجات النزوح الطاغية إليه من محيطه، وموجات التجنيس الجماعي العشوائيّة الكثيفة، والأزمات الاقتصاديّة الخانقة، والهجرات المتلاحقة منه الى الخارج، وتفتيت مكوّنات دولته، التي وصلت الآن إلى ذروتها.وحيث لم تنجح المجاعة الكبرى في القضاء على "النموذج اللبناني" بالضربة القاضية قبل قرن من الزمن، نجحت هذه المرحلة المعاصرة البالغة الاضطراب في زعزعته عميقاً وضرب معظم مكتسباته .


"حركة الوعي"
وحين ننظر إلى "حركة الوعي" (١٩٦٩-١٩٧٦)، الواقعة في السنوات الأخيرة من صعود"النموذج اللبناني"، تبدو لنا كمحاولة أخيرة في زمنها لإنقاذ هذا النموذج، قبل أن يدخل عام ١٩٧٥ الدوّامة التي أوصلته إلى الهوّة السحيقة التي إستقر فيها اليوم. فهذا هو المعنى التاريخي العميق لـ"حركة الوعي".

في زمن كان يطغى فيه الفكر الماركسي على حركات التغيير في لبنان والمنطقة العربيّة والعالم، حاملاً جواباً مُعلّباً لكلّ سؤال، وحدها "حركة الوعي"إستطاعت تخطّي تلك الإيديولوجيا السائدة، لبناء منحى تغييري وطني لبناني جذري، على صعيدي الفكر والممارسة، مُتحرّر تماماً من مواقع النفوذ الداخليّة والخارجيّة، يحمل رؤية خلاّقة للواقع ولآفاقه المستقبليّة، ويلتزم تكريس الحريّات وتحقيق العدل الاجتماعي وتجسيد مصالح الشعب الكبرى. لم تكن تهدف "حركة الوعي" إلى إسقاط النظام اللبناني وتفكيك صيغته، بل إلى إصلاحه بعمق، عبر معالجة تناقضاته الاجتماعيّة-الاقتصاديّة والمناطقيّة، لصالح الفئات الشعبيّة المغبونة،وتطوير إقتصاده الزراعي والصناعي المُهمل، وتحديث بناه في كل المجالات، ومحاربة الفساد فيه، وتكريس الشفافيّة والأخلاقيّة السياسيّة في حكمه وإدارة شؤونه، وإطلاق مفهوم الدفاع عن البيئة الطبيعيّة والحيّة، التي كانت "الوعي" السبّاقة تاريخيّاً إليه في هذه البلاد. ولم تأخذ "حركة الوعي" بمفهوم العنف الثوري لتحقيق التغيير، بل بالضغط الديموقراطي المُنظّم، من جهة، وبالثورة التعليميّة والتربويّة، من جهة أخرى. ويقوم الضغط الديموقراطي المُنظّم على تكوين التنظيمات النقابيّة المستقلة، الموحّدة، الفاعلة، والقادرة على تحريك الجماهير. وكان إسهام "حركة الوعي" الكبيرفي تأسيس "الإتحاد الوطني لطلاّب الجامعة اللبنانيّة"، وإطلاقها عبره تحرّكات ضخمة، مثالاًعلى ذلك. والثورة التعليميّة والتربويّة التي أطلقتها "حركة الوعي"، والتي أوقفتها حرب ١٩٧٥، تذكّر، على الرغم من اختلاف المُعطيات وطبيعة السلطة، بالثورة التي نقلت كوريا الجنوبيّة من بلد متخلّف في ذلك الوقت إلى أحد البلدان الأكثر تقدّماً في عالم اليوم (مع الإشارة إلى أننا لم نكن على اطّلاع آنذاك على ما يحدث في كوريّا الجنوبيّة).ولا بد من القول أن مسار التاريخ كرّس في ما بعد انهيار الهيمنة الماركسيّة على الفكر التغييري في المنطقة والعالم، وأكّد صحة رؤية ما مثّلته "حركة الوعي".


بين "حركة الوعي" و"التغييريين" اليوم : تشابه أم اختلاف؟
حين أصدرتُ صيف٢٠١٩كتابي "حركة الوعي"، كان هدفي تسليط الضوء على هذه الحركة في عيد ميلادها الخمسين في "مؤتمر ميفوق" التأسيسي في شهرآب١٩٦٩، ولإبقائها حيّة في الذاكرة الجماعيّة اللبنانيّة.
 

لم أكن أتوَقّع حينئذٍ انه، بعد شهرين فقط على صدور الكتاب، ستنطلق بين ليلة وضحاها انتفاضة ١٧ تشرين الأوّل٢٠١٩ الشعبيّة الكبرى. كانت مفاجأة سارّة لي مفعمة بكثير من الأمل، رأيت فيها إنبعاثاً لروحيّة "حركة الوعي" في التحرّر من جميع القيود الداخليّة والخارجيّة ومحاربة الفساد وإحداث التغيير الجذري الذي طال إنتظاره. وقد حييتها في حينه على "ساحةالتل" في ّزغرتا، في لقاء حواري مفتوح مع شبان وشابات المدينة والمنطقة الثائرين. لكني منذ ذلك الحين كنت أخشى ما يمكن أن يواجه تلك الانتفاضة من مصاعب ومخاطر، في مجتمع بالغ التعقيد والهشاشة، وفي مرحلة شديدة الاضطراب وحافلة بالمفاجآت. وكنت مدركاً أيضاً مشكلاتها الذاتية العديدة، خصوصاً أزمتها الفكريّة، المُنذِرة بتفكّكّها وشرذمتها.

وبعد إنقضاء سنوات ثلاث على إنتفاضة (أو ثورة، أو حراك)١٧ تشرين، نجد نفسنا، ويا للأسف، على تباين مع الكثير من "التغييريين" الذين ينسبون أنفسهم الى تلك الانتفاضة، في مسائل جوهريّة عديدة، من أهمّها أن "حركة الوعي" كانت تملك فكراً تغييرياً واحداً واضحاً، وتعرف تماماً ماذا تريد، بينما يعيش "التغييريون" اليوم بلبلة فكريّة عميقة، تباعد بينهم وتدفعهم في إتجاهات شتى. ويستحيل عليهم تخطي هذه البلبلة، لأسباب بنيويّة، خصوصاً القصور الفكري عن ادراك المسألة اللبنانية،وانبثاق "التغييريين" من فسيفساء الجماعات اللبنانيّة غير المُندمجة، التي تحمّلهم، في وعيهم ولا وعيهم، العديد من موروثاتها، وتمنع إلتقاءهم في حركة تغييريّة واحدة. وستتضح لدينا هذه الصورة اكثر خلال الرد على النقاط الأربع التالية:

الصيغة اللبنانية : من أين وإلى أين؟
١- يشير بو ناصيف أن"حركة الوعي" "قرّرت بمطلع السبعينات أنّ الوقت حان لتحقيق الديموقراطيّة اللبنانيّة "العلمانيّة الآفاق" (التعبير للدّويهي). ولا يبدو من عرض الدّويهي أنّ مسألة الهويّة وإدارة التنوّع الطائفي إحتلّت اهتمامًا زائدًا في تحليل الحركة للواقع اللبناني، وهذا مفهوم ربّما، اذ اقتنع محازبوها أنّ العلمنة هي الحلّ، وأنّها على الأبواب. ويرفع التغييريّون اليوم مجدّدًا شعار العلمنة، أو الدولة المدنيّة كحلّ، ويتعفّفون بدورهم عن طرح مسألة الهويّة، أو المسألة الطائفيّة".

هذا الاستنتاج لا يصيب الحقيقة قط، إذ أسقط على "حركة الوعي"توصيفات لا تمتّ إليها بصلة. فالفارق بين "الديموقراطيّة اللبنانيّة العلمانيّة الآفاق" التي دعونا إليها، وشعار "إلغاء الطائفيّة السياسيّة" الرائج اليوم لدى معظم "التغييريين" وسواهم، هو فارق جوهري عميق. كما أننا لم نعتقد يوماً بأن العلمنة على الأبواب، وبأننا أهملنا مسألة الهويّة وإدارة التنوّع الطائفي، بل على العكس من ذلك تماماً. فهذه المسائل بالغة الأهميّة في نظرنا. وحين في السبعينيات، كانت المقولة السائدة لدى الماركسيين والاشتراكيين وسواهم، تعلن بكثير من التبسيط،أن الصراع الطائفي إنتهى وبدأ الصراع الطبقي في لبنان، كانت "حركة الوعي" هي الإتجاه التغييري الوحيد الذي رفض هذه المقولة بالكامل، لتعارُضها مع ما كان يحدث على أرض الواقع في تنوّعه وتعقيده، ورأت أن الصراع في لبنان كان (وما زال) طائفيّاً بامتياز. ومسألة الهويّة اللبنانيّة، الموضّحة أعلاه في وصفنا "النموذج اللبناني" وخصوصيّته وتميّزه وإنجازاته، مسألة محوريّة، هي في صلب فكرنا ونهجنا. فهي أم المسائل.

وحين دعونا في السبعينيّات إلى "الديموقراطيّة اللبنانيّة العلمانيّة الآفاق"، كنا ننظر إلى علمنة النظام والمجتمع كغاية استراتيجيّة، ضمن إندماج مكوِّنات لبنان في هويّة وطنيّة واحدة، وعبرانتقال المجتمع اللبناني من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد. لكن أين نحن من كل ذلك؟ في السبعينيّات، كانت مكوِّنات لبنان ما زالت غارقة في هويّاتها الطائفيّة والمذهبيّة، وأبعد ما تكون عن مجتمعات الافراد. والآن، بعد مضي نصف قرن، إشتد الإنتماء إلى الهويّات الطائفيّة والمذهبيّة، وقويَ أكثر إنتماء الأفراد إلى جماعاتهم. ولا تقع مسؤوليّة ذلك البتة على عاتق "الصيغة اللبنانيّة"، كما يتصوّر الكثيرون، وهم مخطئون تماماً في تصوّرهم. فظاهرة تجذّر الهويّات الطائفيّة والمذهبيّة والأثنيّة والقبليّة على حساب الهويّات الوطنيّة، وعدم الإنتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد، خلال المئة عام الأخيرة منذ إنهيار السلطنة العثمانيّة، ليست ظاهرة لبنانيّة، بل هي ظاهرة مشرقيّة شاملة، متشعّبة الأسباب، تتجلّى اليوم بأوضح صورها وأعنفها في دول المحيط. وعلى الرغم من كل شيء، تبقى هذه الظاهرة أقلّ قسوة في لبنان ممّا هي عليه في المحيط، بسبب توازنات "الصيغة اللبنانيّة" وإتاحتها احترام الجماعات بعضها لبعض، وصعوبة فتك جماعة بأخرى، ما لا تتيحه الأنظمة الشمولية، حيث القاعدة هي سحق الآخر.
 
 
 


على الرغم من منحانا العلماني الاستراتيجي، كنا ولا نزال بعيدين عن شعار"إلغاء الطائفيّة السياسيّة"(ترى لماذا السياسيّة فقط دون المجتمعيّة؟)، التي كان يطالب بها في السبعينيات الماركسيون والاشتراكيون والقوميون العرب وسواهم، والتي أضحت شعاراً رائجاّ اليوم يلتقي حوله الكثيرمن "التغييريين" في الموقف عينه، مع مراجع دينيّة وحزبيّة موغلة في طائفيّتها ومذهبيّتها. وهو لقاء غريب، عجيب، يظهر مدى التخبّط الفكري السائد، ومدى البلبلة في فهم المسألة اللبنانيّة. ولا شك في أن "التغييريين" يتصوّرون بأن إلغاء الطائفيّة السياسيّة سيؤدّي عاجلاً، أم بعد حين، إلى تحويل النظام اللبناني إلى ما يشبه "الديموقراطيّة العلمانيّة الغربيّة"، وهو تصوّر خاطئ وساذج . فما سيحصل في حال إلغاء الطائفيّة السياسيّة هو عكس ذلك تماماً، إذ سيقود إلى إقامة ديكتاتوريّة طائفيّة أو مذهبيّة في لبنان، وفق ما تتمناه المراجع الدينيّة والحزبيّة الرافعة هذا الشعار، ينتج منها محو الهويّة والخصوصيّة اللتين تشكِّلان جوهر لبنان، وتحويله نظاماً قمعيّاً آخرمن أنظمة المنطقة، يكون من أوّل ضحاياه..."التغييريين"أنفسهم، الذين لا يدركون ما يفعلون، بينما تدرك المراجع الدينيّة والمذهبيّة تماماً ما تفعل وما تريد.
 

إن مطلب "إلغاءالطائفيّة السياسيّة" (وحدها، دون سواها من ظواهر الطائفيّة)، ومطلب "لبنان دائرة إنتخابيّة واحدة خارج القيد الطائفي"، الرائجين اليوم في العديد من الأوساط التغييريّة والمذهبيّة معاً، يؤديان في الحقيقة إلى إلغاء"الصيغة اللبنانيّة". وقد درجت العادة على تحميل "الصيغة اللبنانية" (التي يشيرون إليها بـ "النظام الطائفي" أو "الطائفيّة السياسيّة") مسؤوليّة الخراب الذي وصل إليه لبنان. وفي ذلك الكثير من الجهل والتجنّي في النظر إلى هذه الصيغة الخلاّقة، التي كانت هي الأساس في صون الهويّة اللبنانيّة وفي نجاح "النموذج اللبناني" الفريد في المشرق على مدى ١١٤ عاماً (لقد إعتاد "النموذج اللبناني" على جحود الكثيرمن الذين إستفادوا من إنجازاته طوال تاريخه، ولم يقدّموا أيّة تضحيات من أجله، واستمروا، فوق ذلك، في معاداته). ويبرز هذا الجهل عينه اليوم في مقاربة "الصيغة اللبنانيّة". إذ يتعذر إدراك هذه الصيغة وفهم فلسفتها وغايتها، من دون الإطّلاع العميق على مرحلة ١٨٤٢- ١٨٦١ التي قادت إليها، والتي ما زالت مستمرة اليوم في جوهرها ومضمونها، في المكان اللبناني، كما في انحاء المشرق كافة.

كنت أودّ التوقف طويلاً عند صيغة لبنان ١٨٦١التأسيسيّة (شبه الغائبة عن النقاش السياسي الراهن، المتخبّط بين ميثاق ١٩٤٣وإتفاق الطائف)، والتي لا يمكن فهم المسألة اللبنانيّة من دونها. لكن لا تتسع هذه المقالة لذلك. وخلاصة القول أنه بعد سقوط الإمارة الشهابيّة عام ١٨٤٢، وفشل حل التقسيم ووصوله الى مذابح ١٨٦٠، كان لا بد من إيجاد صيغة لتعايش الجماعات المتواجدة في جبل لبنان، لا سيّما الموارنة والدروز والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والسنة والشيعة. هكذا نشأ عام١٨٦١ الكيان اللبناني الأوّل، المتمتع بالحكم الذاتي داخل السلطنة العثمانيّة، والحائز على خصائص وامتيازات تكوّنت بنتيجتها "الصيغة اللبنانيّة"، وقام على أساسها "النموذج اللبناني". والصيغة التي أقرّت عام ١٨٦١هي التي أنهت التقسيم، وتجنّبت الفيدراليّة الأرضيّة، بإقامتها نمطا فريداً من الفيدراليّة المُجتمعيّة، حظيت الجماعات المختلفة بموجبها، بتمثيل متساوٍ في السلطات المركزيّة والمحليّة، بصرف النظر عن أعدادها، في أرض وطنيّة موحّدة. كان يشكّل الموارنة وحدهم ٧٦ بالمئة من سكاّن الكيان اللبناني، ومجمل المسيحيين ٨٧ بالمئة، بينما يشكّل الدروز والسنة والشيعة ١٣ بالمئة من السكان. مع ذلك، تكوّن المجلس الإداري (عام ١٨٦١) المؤلّف من ١٢ عضواً، مناصفة بين الجماعات المسيحيّة والجماعات الدرزيّة والإسلاميّة، وكان لكل من الطوائف الست ممثلان إثنان. تمثل الموارنة مثلاً (٧٦ بالمئة من السكان) بإثنين، هما عمّون عمّون ونصر نصر، بينما تمثل الشيعة ( نحو ١ بالمئة من السكان) هم أيضاً بإثنين، هما عبد الله برّو وحسّان همدر. وإنسحب هذا التوازن عينه على جميع المجالس المحليّة. كما إنسحب على شخصيّة الحاكم (المتصرِّف) الذي كان مسيحيّاً، لكنه عثماني غير لبناني. وحظي هذا النظام بحماية الدول الخمس الكبرى آنذاك بالاشتراك مع السلطنة العثمانيّة. وعلى الرغم من مطالبات الكنيسة المارونيّة بجعل التمثيل ملائماً للنسب العدديّة، لم تستجب الدول راعية الإتفاق لذلك. كذلك لم تحقق إنتفاضة يوسف بك كرم إلى ان يكون الحاكم (المتصرِّف) لبنانيّاً أي نتيجة، إذ إصطدمت برفض حاسم من قبل الدول ضامنة الإتفاق. والتعديلات التي طرأت عام ١٨٦٤لم تعد النظر حقاً في طبيعة هذه الفيدراليّة المجتمعيّة، غير الأرضيّة، بل كرّستها نهائيّاً.
 
 
 

أولويّة المسألة الوطنيّة
٢- يذكر بو ناصيف أيضاً أن "حركة الوعي" قد تبرّمت" مما أسماه الدّويهي "الصراعات الكيانيّة المجرّدة"، أي الخلافات الكبرى حول إستقلال لبنان، وعلاقته بالعرب، والقضيّة الفلسطينيّة، واعتبرت أنّ الأجندا السياسيّة ينبغي أن تتمحور حول المسائل الاجتماعيّة، بما في ذلك توزيع الدخل، وتقليص الفوارق الاقتصاديّة بين المناطق، فضلا عن المسألة البيئيّة. هنا أيضًا، يبدو التلاقي جليًّا مع الخطاب التغييري الحالي الذي يؤنِّب جماعة ١٤ آذار لانشغالهم بالمسألة السياديّة والسلاح غير الشرعي، بدل التركيز على ما يهمّ فعلاً، أي "حقوق الناس" التي ينظر التغييريّون إليها من منطلق اقتصادي أوّلاً".
هنا أيضاً يصل بو ناصيف إلى استنتاج لا يتوافق مع الحقيقة، منطلقاًمن الرغبة نفسها في دمج "حركة الوعي" و"تغييريي" اليوم في مسار واحد. فحين نرفض "الصراعات الكيانيّة المجرّدة"، لا نشير بذلك إلى "الخلافات الكبرى حول إستقلال لبنان وعلاقته بالعرب والقضية الفلسطينيّة"، كما يعتقد. بل نقصد الصراعات التي كانت سائدة بقوة، بين الكيانيّة اللبنانيّة، والدعوة إلى الوحدة العربيّة، أو الوحدة السوريّة، أو أيضاً الدعوة إلى لبنان الماركسي الأُممي. فانطلاقاً من إلتزامنا العميق بالكيان والهويّة اللبنانيين، وبـ"النموذج اللبناني" الذي توقفنا أعلاه عند إنجازاته الحضاريّة والوجوديّة، الفريدة في المشرق، لم نعد نريد الخوض في صراعات "فكريّة مجرّدة" حول إحتمالات تذويبه في وحدات عربيّة، او سوريّة، او في مسارات أممية، أحدثت الكثير من الخلافات التي طال أمدها ولم تكن مُجدية. وذهب التاريخ لاحقاً في اتجاه هذه النظرة. فقد تكرّس المفهوم الكياني اللبناني، وبهتت شيئا فشيئا دعوات الوحدة العربيّة، والوحدة السوريّة، والهويّة الماركسيّة الأمميّة، بحيث لم تعد موضع نقاش في الزمن الراهن.
كذلك القول بأننا نقدّم مسألة الإصلاح الإجتماعي-الإقتصادي على المسألة الوطنيّة اللبنانيّة، ونلتقي في ذلك مع "الخطاب التغييري"اليوم الذي يتغاضى عن المسألة السياديّة ليعالج "حقوق الناس"، فهو قول معاكس لحقيقتنا. فنحن، إنطلافاً من فكر "حركة الوعي" ونهجها، ننتمي عميقاً إلى روحيّة ١٤ أذار الشعبيّة، في الوقت الذي نرفض فيه ألاعيب قياداتها التي خرّبتها تحقيقاً لمصالحها الشخصيّة، فلم تكن على مستوى ذلك التحرّك الشعبي الكبير، لا سيّما إنخراطها في إنشاء الحلف الرباعي، وفي إبرام اتفاقية مار مخايل. ونحن اليوم لا نلتقي إطلاقاً مع الكثير من "التغييريين" الذين يغضّون الطرف، لأسباب عديدة، عن تمزّق لبنان بين دولتين، وجيشين، فوق أرضه، وإنعكاساته الكارثيّة على البلاد، ليقفزوا فوق ذلك إلى الإصلاح ومحاربة الفساد والنهوض الإقتصادي. فمثل هذا التوجّه عبثي تماماً، ونستغرب كيف يمكن ان يأخذ به "تغييريون" ينتسبون إلى انتفاضة ١٧ تشرين (التي قمعتها عُصي "القمصان السود" على وقع تلك الصيحات المذهبيّة الفجّة، وقد وجّهت مرجعيّات "القمصان" ولا تزال أبشع التهم لتلك الإنتفاضة). فمن الواضح ان لا نهوض للبنان بتجاهل المسألة الوطنيّة، التي هي المدخل الإلزامي لكل إصلاح. فلبنان اليوم هو حالة هجينة غريبة لا مثيل لها في العالم. ومن البديهي ان لا رجاء في إصلاح لبنان إصلاحاً حقيقياً وإنهاضه من الهوّة الغارق فيها، إلا بإقامة دولة واحدة، وجيش واحد، ووجود استراتيجيّة واحدة، وإدارة فاعلة موحّدة، وسلطة قضائيّة فاعلة مستقلة، فوق أرضه. وكل بحث خارج هذه الأولويّات الوطنيّة يصل إلى طريق مسدود.

"الوعي"، حركة إستقطاب وليس إقصاء
٣- ويورد بو ناصيف في سياق مقالته ما يلي: "لم تفرّق "حركة الوعي" بين أحزاب كـ الكتائب و الأحرار، من جهة، والحزب الشيوعي من جهة أخرى، بإعتبارها كلّها من علامات الإنقسام "التقليدي" الذي تمرّدت عليه". ويضيف في مكان آخر :"تبرّمت "حركة الوعي" من الإصطفاف التقليدي بين ما أصطلح على تسميته آنذاك باليمين، واليسار، فقرّرت أنّ الوقت حان لبناء "حركة تغيير لبنانيّة وطنيّة حقيقيّة تفرض تجاوز تلك الثنائيّة"، كما قال الدّويهي. اليوم، يتبرّم التغييريون بدورهم من ثنائيّة٨ و ١٤، ويرفعون شعار "كلّن يعني كلّن" الشهير، ضدّ الطرفين".

كلاّ، لم يكن الأمر كما يتصوّره صاحب المقالة. فهو يتحدّث عن واقع النصف الأوّل من السبعينيّات، المختلف تماماً عن الواقع اللبناني الحالي، خصوصاً واقع الجامعة اللبنانيّة آنذاك، حيث نشأت "حركة الوعي". كانت الجامعة اللبنانيّة في حينه مختبراً فكريّاً وسياسيّاً فريداً لكل ما يتواجد من إتجاهات وطروحات في العالم العربي، من المحيط إلى الخليج. وكانت - خصوصاً كليّة التربية – قاطرة المجتمع اللبناني نحو التغيير. كان التمايز الفكري والسياسي عميقاً بين القوى الفاعلة في الجامعة اللبنانيّة وتلك المهيمنة على المجتمع اللبناني، ولم تكن الجامعة، كما هي اليوم، نسخة باهتة عن المجتمع. والأحزاب الكيانيّة اللبنانيّة التقليديّة (الكتائب والأحرار والكتلة الوطنيّة) كانت تعاني آنذاك تعثّرا كبيراً في تحرّكها في بيئة الجامعة اللبنانيّة وقصوراً فكرياً لافتاً كانت تعكسه بياناتها الإنشائيّة المُبسَّطة حول مختلف الموضوعات.

ولا بد من التأكيد في هذا المجال أن "حركة الوعي"، من جهتها، لم تكن إقصائيّة قط، بل ساعية لأوسع قدر من الإستقطاب حول خطّها. كنّا ندرك أهميّة الإستقطاب لتحقيق الضغط الديموقراطي المنظّم، ولبناء الأدوات النقابيّة التي تتيحه. فمن دون الاستقطاب الواسع، لم يكن بإمكاننا تكوين "الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانيّة" عن طريق الإستفتاءالعام. ومن دون هذه الأداة النقابيّة المركزيّة الموحّدة، لم يكن بالإمكان إطلاق تحرّكات مطلبيّة كبرى. ولبناء الاتحاد، كانت قواعدنا تدعم توجّهنا، كما حصلنا على دعم انصارالأحزاب الكيانيّة التقليديّة الثلاثة، الكتائب والأحرار والكتلة الوطنيّة. من جهة إخرى، كان لا بد أيضاً من التوافق مع الحزب الشيوعي اللبناني على إقرار صيغة الاتحاد. هكذا، استطعنا تأمين أكثريّة طلابيّة كبرى لتحقيق ذلك الاتحاد التاريخي، الذي فازت "حركة الوعي" في انتخابات لجنته التنفيذيّة الاولى فوزاً كاملاً، وسيطرت على رئاستها وكامل أعضائها.

حينئذ أطلقت "حركة الوعي"، عبر "الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانيّة"، تحرّك ١٩٧١ الكبير، وهو أهم تحرّك طلابي وشبابي في تاريخ لبنان. حدث ذلك في مستهل عهد الرئيس سليمان فرنجيّة، وفي وجه حكومة الرئيس صائب سلام. فوجئ سلام بضخامة التحرك، وبحدّته وصلابته، واعتبر انه لا يستهدف الحكومة بل النظام اللبناني. وفوجئ خصوصاً بعدم وجود "مفتاح" لذلك التحرك داخل الطبقة السياسيّة، يمكّنه من التعامل معه كما كان معهوداً. حاول التفاوض مع قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي لإنهاء التحرك، فأبلغته بأن الأمر ليس في يدها. حينئذ إنتقل إلى القيادة الكتائبيّة التي تجاوبت مع مسعاه، لكنها لم تنجح في تحقيقه. إذ رفضت "الوعي" رفضاً قاطعاً إيقاف التحرك، الذي إستمر حتى تحقيق أهدافه.
حينئذ وقعت القطيعة بين "حركة الوعي" والكتائب (وحليفيها)، الذين، منذ ذلك الحين، ناصبوا "الوعي" الخصومة. وباتت جريدة "العمل" الناطقة بإسم الكتائب تنعت "حركة الوعي" بأنها " اليسار المقنّع، الاكثر خطورة من اليسار السافر الوجه"، بينما كانت جريدة "النداء"، الناطقة بإسم الحزب الشيوعي اللبناني، تصف "حركة الوعي" بـ " اليمين الذكي، الأكثر خطورة من اليمين الغبي".

وبالنسبة للواقع الراهن، ووفقاً لفكر "حركة الوعي" ونهجها، نحن، كما ذكرتُ أعلاه، متمسّكون بروحيّة ١٤ آذار الشعبيّة، مع رفضنا لممارسات القيادات السياسيّة التي شوّهتها. ولا شيء يجمعنا بروحيّة ٨ آذار ولا بسياساتها.

الموقف من العنف والحرب
٤- ويعرض بو ناصيف، أخيراً، ما يأتي: "لا يزال السلاح غير الشرعي اليوم، ما كانه بالأمس: الشرط النافي لاحتمالات التغيير. وما بقيت الدولة ضعيفة، فالموقع الطبيعي لقوى الإصلاح إلى جانب القوى السياديّة ولو "تقليديّة". كان ينبغي بهذا المعنى أن تحترم "حركة الوعي" نضال الكتائب ضدّ السلاح الفلسطيني، لأنّ وجوده ينفي الدولة، وتاليا إحتمالات إصلاحها. الأمر عينه صحيح بالنسبة للقوى السياديّة وتغييريّي اليوم. وليس مطلوباً طبعاً من التغييريّين أن يذوبوا بالسياديّين، كما لم يكن ضروريًّا بالأمس أن تذوب حركة الوعي بالجبهة اللبنانيّة. ولكن المفروض الإنتباه إلى أن لا أولويّة كانت ممكنة فوق حماية الدولة من السلاح بالسبعينات، ولا أولويّة اليوم فوق ضرورة إستعادتها منه".

هنا أيضاً، يقع الكاتب في محاولة إسقاط لبنان اليوم على لبنان النصف الأول من السبعينيّات، فيعتقد أن الوضعين متشابهان، ما أوصله إلى إستنتاجات خاطئة. والحقيقة أن الوضع اللبناني آنذاك مختلف عما هو عليه اليوم. صحيح أن الوجود الفلسطيني المسلّح بات يشكّل آنذاك عبئاً ثقيلاً على البلاد، خصوصاً بعد إتفاق القاهرة. لكن الوجود الفلسطيني لم يكن هو العائق الفعلي امام الإصلاحات. فمنذ الستينيّات وقبلها، كان هناك مأزق مُطبق بين القوى السياسيّة والماليّة الحاكمة التي ترفض الإصلاحات جُملة وتفصيلاً (باستثناء محاولة الرئيس شهاب في هذا الإتجاه)، من جهة، وقوى الرفض، الماركسيّة والقوميّة العربية وغيرها، من جهة أخرى، الداعية إلى إسقاط النظام اللبناني وصيغته. وحين قامت "حركة الوعي" ركّزت على تجاوز ذلك المأزق نحو آفاق جديدة أخرى، أوضحناها أعلاه.

وعلى الرغم من كل شيء، كان الشعور السائد في النصف الأول من السبعينيات ان بلادنا قويّة واننا نقف فوق أرض صلبة، وهو على طرف نقيض تماماً لما نشعر به منذ سنوات، وخصوصاً اليوم، إذ ندرك بعمق هشاشة بلادنا، ودنوها من الانهيار التام. فالكيان اللبناني فقد معظم الانجازات التاريخيّة التي حققها في مساره الطويل. وهو الآن بلاد مقسّمة، تقوم فيها، في مناطق الشيعة، دولة ممتدة من ضاحية بيروت الجنوبيّة إلى الجنوب والبقاع، مسيطرة على معظم الحدود البريّة مع سوريا، وعلى الحدود البريّة ومعظم الحدود البحريّة مع الكيان الصهيوني. وهذه الدولة هي على تكامل عضوي وإيديولوجي وإستراتيجي عميق مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. وفي الأراضي الباقية من "لبنان الكبير"، لبنان ١٩٢٠، تقوم بقايا دولة، منهكة، مشرذمة، مشتتة الآفاق. فأي نهوض وأيّة إصلاحات ترجى في مثل هذه البلاد، التي لا مثيل لوضعها الغريب في العالم؟
على صعيد آخر، وكما ذكرت في كتابي "حركة الوعي"، لم نكن موضوعين في جو حرب ١٩٧٥، ولا في جو الإستعدادات القائمة هنا وهناك للمشاركة فيها، إن انطلقت، وذلك لبعدنا وإستقلاليتنا عن كل تلك القوى آنذاك. لكن منذ أواخرعام ١٩٧٤، بدأنا نشعر بتوترات متزايدة وصار هاجسنا الكبير عدم سقوط لبنان في أتون العنف. لم "تنزوِ" "حركة الوعي" مع انطلاق الحرب، على حد تعبير بو ناصيف، بل قرّرت عدم المشاركة في العنف الآتي، فجمّدت نفسها. كانت الحركة في عزّ انطلاقها حين إنفجرت شرارة عين الرمانة. على مدى تلك المرحلة، كان همّنا تجنيب لبنان الوقوع في الكارثة. كنا ندرك التعقيدات الداخليّة والإقليميّة والدوليّة البالغة الخطورة، ونرى في العنف الآتي خطراً كبيراً على مصير الكيان اللبناني وجوهره. وقد أوضحنا ذلك كله في الوثيقة الأخيرة الصادرة عن الحركة اوائل العام ١٩٧٦. كنا نرى أنه، إذا انطلق العنف، فلن يستطيع أحد بعدئذ التحكّم بمساره وتحديد نتائجه. وهكذا كان، منذ العام ١٩٧٥ حتى الآن : حرب داخليّة طائفيّة الطابع بمشاركة فلسطينيّة بارزة، مجازر مروّعة وعمليّات تهجير جماعيّة متبادلة، هيمنة عسكريّة سوريّة، اجتياحات واحتلالات إسرائيليّة، تدخّل عسكري دولي لا سيّما أميركي وفرنسي، حروب متوالية داخل الطوائف والفصائل المسلّحة اللبنانيّة كانت أهمّها وأخطرها الحرب المسيحيّة-المسيحيّة، إنقاسامات وتشرذم داخل الجيش والدولة، سقوط ما يقدّر بأكثر من ١٥٠ ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى والمعوقين والمفقودين، سلسلة طويلة من التفجيرات والاغتيالات، بينها اغتيال رؤساء جمهوريّة وحكومة وشخصيّات سياسيّة ودينيّة وفكريّة وصحافيّة كثيرة، هجرة هائلة الى الخارج خصوصاً هجرة الأدمغة والقوى الشابة، مقابل نزوح أكثر من مليوني لاجئ سوري إلى لبنان ما زالوا مقيمين فيه إضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين، مغامرات اقتصاديّة وماليّة مرتكزة إلى الألاعيب المصرفيّة والاستدانة والهدر ونهب المال العام ونهب المساعدات الخارجيّة على مدى ثلث قرن، حالة التفكك الخطيرة الراهنة في المجتمع والدولة والتقسيم غير المُعلن، ضرب المنجزات التاريخيّة الفريدة لـ "النموذج اللبناني" وصولاً الى الهوّة الاقتصاديّة والماليّة والحياتيّة والصحيّة القابع فيها لبنان اليوم، وما من معين.
هكذا فتحت حرب ١٩٧٥ أبواب جهنم على لبنان وما زالت مفتوحة بعد نصف قرن، وقد صحتّ، ويا للأسف، المخاوف الكبرى التي عبّرت عنها "حركة الوعي" مطلع العام ١٩٧٦.

كلمة أخيرة
بعيداً من الأطروحات الببغائيّة الرائجة لدى غير المتعمّقين في المسألة اللبنانيّة، ليست "الصيغة اللبنانيّة" هي التي منعت الإنتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد، وليست "الصيغة اللبنانيّة" هي التي أدّت إلى الفساد العميم، وإلى خراب لبنان. في ضوء النتائج التي وصل إليها قرن كامل من التجارب والتحوّلات السياسيّة المشرقيّة منذ إنهيار السلطنة العثمانيّة حتى اليوم، لم يستطع إيّ نظام حكم دمج الجماعات في مجتمع أفراد، ولا منع الحروب والصراعات الداخليّة القاتلة، ولا ضبط إستفحال الفساد. وهذه ليست حال المشرق فحسب، بل العديد من مناطق العالم أيضاً، لعوامل كثيرة لا متّسع لتحليلها في هذه المقالة. بل على العكس من ذلك، خففت "الصيغة اللبنانيّة" من حدّة صراع الجماعات الطائفيّة والمذهبيّة وغيرها، وأبعدت عن لبنان جدليّة الساحق والمسحوق الرهيبة، السائدة في المنطقة، والمُدمّرة طاقات الشعوب الخلاّقة لأجيال.
ما الذي أدّى إلى خراب لبنان ؟ العامل الرئيسي هو التالي : حلم الحريّة الذي يحمله "النموذج اللبناني" في أساسه وفي تكوينه العميق، وسط محيط تسوده الأنظمة الأمنيّة والقمعيّة، وهذا التجاذب الأبدي الذي أشرنا إليه، بين حركة الدمج في نظام الإستبداد، من جهة، وحركة الإفلات منه وتخطيه، من جهة أخرى. إن استمرار نظام الحرّيات وسط محيط أمني مطبق، يتناقض معه ويسعى لاختراقه على الدوام، على وقع تجاذبات المنطقة ومتاهاتها، هومغامرة دائمة بالغة الصعوبة ورهان هائل. فلا سبيل فعالا لصدّ الاختراقات التي تواجه "النموذج اللبناني" إلا بتطوير الجانب الأمني والسلطوي فيه على حساب نظام الحرّيات، ما يهدّد جوهرهذا النظام برمّته، إذ يصعب للغاية، في مثل هذا المحيط، ضبط الديناميكيّة السلطويّة إن انطلقت. كما يصعب تماماً المزج الدقيق بين الحرّيات والسلطويّة. وتجربة المكتب الثاني في المرحلة الشهابيّة دليل معبّر عن ذلك. وعلى الرغم من المخاطر والمصاعب والأخطاء، الداخلية والخارجية، استطاع "النموذج اللبناني" تحقيق ذاته وتقديم مكاسب حياتيّة ووجوديّة وثقافيّة فريدة لأجيال متوالية من البشر، على مدى ١١٤ عاماً. وعلى الرغم من الإنهيار الذي بدأ عام ١٩٧٥، وقد وصل الآن الى اللجّة السفلى، ما زالت ملامح نمط الحياة اللبناني وأضواء الحريّات في التجربة اللبنانيّة تلوح، ولو خافتة، تحت الرماد.

ما العمل؟ بعد ١٦٢ عاماً على قيام الكيان اللبناني ، يعود السؤال نفسه : كيف تأمين التعايش بين الجماعات المختلفة المتواجدة في المدى اللبناني من دون تقسيمه أو فدرلته جغرافيّاً؟ وكيف تأمين الحرّيات والإنفتاح ونوعيّة الحياة البشريّة، التي هي علّة وجوده، في محيط تسوده الأنظمة الاستبداديّة؟ إن الدعوة إلى إحلال الديموقراطيّة العدديّة محل "الصيغة اللبنانيّة" (عبر شعار إلغاء الطائفيّة السياسيّة حصراً الرائج، او لبنان دائرة انتخابيّة واحدة خارج القيد الطائفي، او أيضاً انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب...)، وسط يقظة الجماعات الطائفيّة والمذهبيّة والأثنيّة والقبليّة في المشرق على حساب الدول المتوالية منذ قرن، لن تحلّ شيئاً، بل تخرّب كل شيء. فهذه الدعوة ستؤدي حتماً إلى نظام الديكتاتوريّة الطائفيّة أو المذهبيّة، فيصبح النظام اللبناني شبيهاً تماماً بأنظمة المحيط (حيث تسود ديموقراطيّة الـ٩٩ بالمئة)، ويخضع، ولو متأخّراً، لجدليّة الساحق والمسحوق، المعقِّمة الشعوب والقاضية على طاقاتها الحيّة. وسيكون أوّل ضحايا النظام الموعود هم "التغييريون" والعلمانيون أنفسهم، الذين لا يعود ينفعهم الندم والحسرة على ضعف بصيرتهم. لكن سيكون من ضحاياه أيضاً الطائفيون والمذهبيون، حيث سيفقدون وتفقد الجماعات التي يحرّكونها، التميّز ونوعية الحياة والثروة الثقافيّة التي أولاهم إيّاها "النموذج اللبناني"، وهي خسارة مصيريّة كبرى.

ويجدر بنا هنا التوقف قليلاً عند المُعطى التاريخي التالي، ومحاولة النظر إلى أنفسنا في مرآته: إن مفهوم الديموقراطية العددية هو من الشعارات الكثيرة، الخاصة بمجتمعات الأفراد، الواردة إلينا من الديموقراطيات الغربية، والتي يسهل رفعها وتكرارها من دون فهم مضمونها وخصائصها. لا شك في ان الديموقراطيّة العدديّة هي من أهم الإنجازات التي حققتها مجتمعات الأفراد في الغرب. لكن ليتم الإنتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد، مرّت أوروبا في مسار تحوّلي طويل، من القرن السادس عشر الى القرن التاسع عشر،، تحرّر بنتيجته الأفراد من جماعاتهم العائليّة والقرويّة والمناطقيّة والطائفيّة واندمجوا في الهويات الوطنيّة، بفعل توالي أحداث كبرى، ليس أقلّها النهضة الأوروبيّة، وبروز العقل النقدي في موازاة الأحادية الدينيّة، والثورة الصناعيّة، وفكر التنوير، والثورة العلميّة، والثورة الفرنسيّة، وما تركه ذلك كلّه من إنعكاسات عميقة على بنية المجتمعات الأوروبيّة ووُجهتها. وإذا قارنّا حال المشرق الراهنة بهذه الصورة، فماذا نجد؟ نجد أنه، على مستوى البنية السوسيولوجيّة، ما زال المشرق في مرحلة مجتمع الجماعات الشبيهة بمطلع القرن الثامن عشر في أوروبا. وعلى مستوى البنية الدينيّة، هو يشبه ما كانت عليه أوروبا في مرحلة القرون الوسطى، حيث يهيمن المُقدّس على مختلف أوجه الحياة الأرضيّة. فلا بد من إدراك هذه المُعطيات واستيعابها، قبل إستسهال طرح الديموقراطيّة العدديّة كحل للتعدديّة اللبنانيّة.

فمن الآن وحتى تقوم مجتمعات الأفراد محل مجتمعات الجماعات في المشرق وتندمج في الكيانات الوطنيّة، ومن الآن وحتى ينحسر شبح الاستبداد السلطوي عن أنظمة المنطقة وتزول جدليّة الساحق والمسحوق، وهي أمنيات تخضع لمسار تاريخي لا أحد يعلم متى سيتحقق، من الآن الى ذلك الحين، لا حل حقيقيّاً لعلاقة الجماعات بعضها بالبعض الآخر في المدى اللبناني وإندماجها في نظام حضاري واحد إلا باستلهام "الصيغة اللبنانيّة" والسعي إلى تطويرها في ضوء تجربتها التاريخيّة الغنيّة وتجارب محيطها.
 
 

(1) صادر عن "الدار العربيّة للعلوم - ناشرون" و"دار المراد"، بيروت، ٢٠١٩.