بعد اعتذار الحريري... باريس وواشنطن أمام معضلة لبنانية؟

تقدّم الرئيس المكلّف سعد الحريري باعتذاره عن تشكيل الحكومة أمس الخميس بعدما عجز والرئيس ميشال عون عن الاتّفاق على آليّة لتسمية الوزراء. سارعت الولايات المتحدة إلى التعبير عن إحباطها من التطوّر، إذ غرّد وزير خارجيتها أنتوني بلينكن كاتباً: "نحن خائبو الأمل تجاه التطورات في لبنان ومحبطو العزيمة لأنّ القادة السياسيين أضاعوا الأشهر التسعة الماضية. تحتاج جميع الأطراف المعنية إلى العمل بشكل طارئ لتشكيل حكومة قادرة على تطبيق الإصلاحات فوراً". من جهته، قال وزير الخارجية الفرنسي جان-إيف لودريان إنّ "لبنان يشهد حالة تدمير ذاتيّ والطبقة السياسية تتحمل المسؤولية".

 

تبدو الولايات المتحدة وفرنسا عاجزتين عن الإتيان بحلول للأزمة القائمة. حين وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت عقب انفجار المرفأ في الرابع من آب، انتشرت آمال كبيرة بقدرة باريس على إنقاذ لبنان من الهاوية التي وصل إليها. تبيّن سريعاً أنّ تلك الآمال ارتبطت بمشاعر تائقة إلى رؤية الضوء في نهاية النفق أكثر من ارتباطها بتحليل لقدرات فرنسا. ظنّ ماكرون أنّ زيارته وكلماته "التأنيبية" وحدها قد تشكّل حافزاً لتغيير سلوك أركان الحكم، مستبعداً لفترة طويلة فكرة فرض عقوبات على المتسبّبين بالأزمة. في الأشهر الأخيرة، تردّد أنّ الأوروبيين منكبّون على "دراسة" فرض العقوبات، لكن من دون أن تتبيّن نتائج عمليّة لهذه الدراسة "المتأنّيّة" حتى اللحظة.  

 

نتائج عكسية

على الرغم من النوايا الحسنة التي حملتها باريس إلى بيروت والتي تجد جذورها في الروابط التاريخية بين البلدين، لم تحقّق فرنسا أهدافها، هذا إن لم تكن قد تسبّبت بأهداف عكسية. غرّدت جيسيكا عبيد، مستشارة أولى وخبيرة شؤون الطاقة في شركة "أزور استراتيجي"، أنّ ماكرون "أعطى الطبقة السياسية شريان حياة بعد 4 آب وأهدر وقت اللبنانيين". لا يصعب فهم هذا التململ الذي يشاطرها إيّاه جزء كبير من اللبنانيين. فبناء على رغبة أطراف سياسية لبنانية وفي مقدّمتها "حزب الله"، قبِل ماكرون بعدم إجراء انتخابات نيابية مبكرة إلى جانب تقديمه تنازلات أخرى كعدم الدعوة إلى تحقيق دوليّ في تفجير المرفأ.

 

إنّ القبول بعدم الرجوع إلى حكم الشعب على الرغم من معاناة بيروت من ثالث أكبر انفجار غير نوويّ عبر التاريخ، وهو انفجار ناجم عن إهمال إن لم يكن عن تواطؤ، أعطى الأحزاب الحاكمة مجالاً أكبر للمناورة وبالتالي للعودة إلى لعبة شدّ الحبال. أدّى ذلك إلى المزيد من استنزاف الاحتياطي المالي في مصرف لبنان ممّا انعكس سلباً على القطاعات الحيويّة كافة. تكفي قراءة تقرير البنك الدولي الذي صنّف الأزمة الاقتصادية اللبنانية ضمن أكبر ثلاث أزمات منذ أواسط القرن التاسع عشر لمعرفة الهاوية التي وصل إليها لبنان والتي على ما يبدو لا تعرف قعراً لها.

يبقى السؤال حالياً عمّا يمكن أن تقدّمه فرنسا والولايات المتحدة بعد خطوة الاعتذار. لكن قبل الحديث عن إمكاناتهما في هذا المجال، تجدر أوّلاً محاولة تلمّس تصوّر هاتين الدولتين للمرحلة المقبلة في لبنان وكيفيّة تعاطيهما معها. من الواضح أنّ الخيارات مرّة على باريس وواشنطن وإن كانت أقلّ مرارة ممّا هي على اللبنانيين.

 

خيارات متناقضة

إذا قبلت باريس وواشنطن بتشكيل حكومة ترأسها شخصيّة لا تحظى بغطاء الحريري، فمعنى ذلك أنّهما تخاطران بزعزعة استقرار التوازنات داخل البلاد، وهي توازنات تزداد هشاشة بمرور الوقت وازدياد خطر الانفجار الاجتماعي. كما يمكن أن ترسلا إشارة إلى أنّهما موافقتان ولو بطريقة غير مباشرة على السياسات التي يمارسها رئيس الجمهورية وفريقه، علماً أنّ العاصمتين لم تبرّئا أي طرف ممّا وصلت إليه الأمور راهناً.

وهذا ما يحذّر منه المعلّق على شؤون الشرق الأوسط ومدير "مجلس التفاهم العربي-البريطاني" كريس دويل في إجابته على أسئلة "النهار": "لن يكون من الحكمة أن تدعم فرنسا والولايات المتحدة أي حكومة لا تتمتع بدرجة من الدعم الممثّل للأطراف". ويضيف أنّه "أبعد من ذلك، عليهما دعم لبنان و(إيجاد) حلول للشعب اللبناني كي يتمّ تنفيذها فقط بطريقة تعالج الأسباب الجذرية للأزمة". وهذه الأسباب بحسب دويل هي النظام السياسي الفاشل والنظام الطائفي والنخب السياسية التي سجنت لبنان إضافة إلى الفساد المزمن.

تقف باريس وواشنطن أمام معضلة. قد لا تستسيغان حكومة من دون غطاء سنّيّ، وربّما تنتهي في الوقت نفسه إلى أن تكون حكومة اللون السياسيّ الواحد تشبه حكومة تصريف الأعمال الحالية. في الوقت نفسه، لو قرّرت العاصمتان عدم إعطاء دعمهما أو ثقتهما للحكومة المقبلة، بصرف النظر عن طريقتي تشكيلها وتركيبها، فقد توحيان بعدم وجود نيّة لديهما بإنقاذ لبنان أو أنّ هذه النيّة مشروطة برؤية "ضيّقة" لدى كليهما.

 

تناقص اهتمام محتمل

مع مرور الوقت، من المتوقّع أن يتناقص اهتمام الإليزيه بلبنان، بسبب اقتراب استحقاق الانتخابات الرئاسية الفرنسية. ربّما يدفع هذا الأمر الفرنسيين إلى القبول بدعم أيّ حكومة مقبلة قبل صرف الانتباه إلى شؤونهم الداخلية. حتى الأميركيّون قد لا يكونون راغبين باستثمار جهد سياسي كبير في الشرق الأوسط، وبدرجة أولى، في لبنان. بدأت واشنطن تخفّض بصمتها العسكرية الدفاعية في دول الخليج بالتزامن مع مفاوضات فيينا. والرغبة الأميركية بإحياء الاتفاق النووي ليست سوى أحد تمظهرات سياسة الإدارة الحالية بالتركيز على ما تجده "التهديد الأكبر" لمكانتها الدولية أي الصين. وليس واضحاً بعد موقع لبنان في مفاوضات فيينا: هل يكون جزءاً من أوراق التفاوض أم يخضع مصيره لبحث منفرد؟ الجواب غير واضح اليوم، لكنّ الاحتمال الأوّل ليس مستبعداً.

 

وسط هذه الحسابات المعقّدة، يبدو انسداد الأفق الحقيقة الأمرّ أمام اللبنانيّين. لم يحل التدخل الغربيّ دون تدهور إضافيّ في آليّة ممارسة الحكم داخل لبنان، بل ربّما يكون سبباً من أسبابه ولو عن غير قصد. بالمقابل، وعلى الرغم من حالة الغضب الشعبيّ التي تفجّرت في تشرين الأول 2019، لم ينشأ بديل جدّيّ عن الأحزاب التقليديّة العاجزة عن إيجاد تناغم الحدّ الأدنى داخل تركيبة السلطة كما العاجزة عن مواكبة العصر في طرحها وأدائها.