معارضة من دون مشروع وحُلُم معطّل... هل ينجح سيناريو تفكيك نظام "حزب الله"؟

لم تكرّس الممارسات السياسية والدستورية بعد اتفاق الطائف حلم عبور اللبنانيين إلى الجمهورية الثانية – جاءت قبل الأولى بقرون وأعادتنا إلى العصور الحجرية – فساهمت الانتقائيّة في ترسيخ غلبة فريق على باقي اللبنانيين، وانحسرت الخيارات أمام هذا "الباقي"، فكان أمامه إمّا الرضوخ والعيش تحت سقف "حزب الله"، وإمّا الانتفاضة واختراق هذا السّقف.
 
مشكلة نظام أم سطوة عليه...
محطة الـ2005 وتجاربها النضالية والسياسية والدستورية وصولاً إلى 17 تشرين 2019 وما بعدها، أثبتت أنّ حالة الانقسام أينع شبابها، والحديث عليها تارة يكون هسهسة (1) وتارة أخرى كنقر الخيل (2). وأحد أوجه تجسيد هذه الحالة، فارق الرؤية إلى النظام السياسي ومساوئه، بين مَن يعتبر أنّه بات عبئاً ويجب تغييره، وبين آخر، يرى استعباداً له بقيود طائفية وحزبية، وبسطوة على الدولة والآليّات القانونية فيها، وبتفريغ المؤسسات الشرعيّة وفق استنسابية ممنهجة لعدم تطبيق اتفاق الطائف.
 
فأفضلُ نظام سياسي في العالم لو أسقطه على لبنان لبَات غير قابل للتنفيذ بوجود فريق مسلّح خارج الدولة، يمنع تطبيق أيّ شكل من أشكال النّظام لا يرتبط برؤيته؛ فمنطق الدولة و"الثورة المسلّحة" لا يلتقيان. من هنا، ربّما يصحّ القول إنّ مسؤوليّة القوى السياديّة هي على مساحة لبنان لكنّها أكبر من لبنان.
 
مسؤولية يُفترض بها أن تكسر الستاتيكو الممتدّ من الـ2005، ألا هو تحسين شروط المواجهة مع هذه "الثورة المسلّحة"، إلى كسر الجمود المعطّل لمشروع الدولة، عبر آليةٍ تأتي استكمالاً لثورة الاستقلال الثاني، فلا تُفسح المجال لـ"حزب الله" للسيطرة على كلّ الدولة اللبنانية، بل تُوقف التهجير الممنهج، وتُحافظ على التنوّع القائم وعلى الجماعات الموجودة، وتصون الخصوصيّة اللبنانيّة، وتتصدّى لكلّ مَن يريد الإطاحة بها.
 
من هنا، قد يُتاح لنا قراءة ما بين سطور الكلام الذي لمّحت إليه القوى المسيحية السيادية، وتحديداً "القوات اللبنانية" في حديثها على النظام السياسيّ، أو "الكتائب اللبنانية" في حديثها على الطلاق، علماً بأنّ استراتيجية "القوات" و"الكتائب" مغايرة تماماً لما يُنادي به "التيار الوطني الحرّ"، الذي يتحدث على صلاحيّات أو تعديل بنود وإضافة أخرى... وهو أمرٌ غير فاعل وغير ديناميكيّ. فهل كان يمكن على سبيل المثال تغيير النظام في ظلّ وجود "أبو عمار" (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية السابق ياسر عرفات) في بيروت والثورة الفلسطينيّة؟ وهل كان يمكن الحديث على تغيير النظام السياسي في ظلّ الاحتلال السوري للبنان؟ وهل من المنطقيّ اليوم القول إنّنا نريد تغيير النظام في ظلّ وجود "حزب الله" وسلاحه؟
 
اليوم استمرار للأمس
الفكرة الأساس أنّه بعد مرور نحو 15 عاماً على حرب أهليّة أوقعت آلاف الشهداء، وألحقت دماراً وانقساماً بالداخل، وأنتجت اتفاق الطائف، الذي لم يُطبّق، وأدخلت لبنان في مرحلة سِلمٍ هشٍّ، عرّابه النظام السوريّ حتى الـ2005، يُضاف إليها 17 عاماً أخرى من سِلم متفجّر، حصد خيرة قادة ثورة الأرز ومفكّريها، من دون تحقيق قيام الدولة، ما زلنا في حال مراوحة، ضمن معادلة قوامها سيطرة شبه كاملة لـ"حزب الله" على القرار، وغياب مشروع الدولة، وانعدام الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي والمالي، واهتراء بنية القضاء والمؤسّسات، ممّا يعني أنّ "السيل بلغ الزُبى"، وهذا الواقع، لا يمكن أن يستمرّ.
 
سيناريو المواجهة
كرة الثلج تكبر، ولا رهان على إيجابيّات تُنقذ اللبنانيين. لا انتخابات نيابيّة، ولا حكومة، ولا رئاسة. ثمّة عجز متراكم، والمشهد شبيه بالأمس، يوم تفكّكت أوصال الدولة، وعطّل الوجود الفلسطينيّ قرارها، واليوم بنسخته الإيرانية والحزب اللهيّة".
وإذا لم "يفرط" الوضع على غرار الـ75، فلأن قوى سياسيّة لا تزال حريصة على ذلك. ولكن إذا وصلت هذه القوى إلى هاوية انتفت فيها المصلحة، على خلفية وصول رئيس جديد للجمهورية من فريق 8 آذار مثلاً، وست سنوات إضافية في الحكم لهذا الفريق، في ظلّ عزلة خارجية غربية وعربية، ولعبة سياسية مضبوطة بسقوف الحزب والمنظومة، فلا مجال إلّا لخطّة سياسيّة تتخطّى لعبة المعارضة التقليدية من داخل المؤسسات إلى الشارع.
 
وهذا يعني خوض تجربة استثنائيّة، تتمثّل بالانتقال من المواجهة التقليديّة الكلاسيكيّة مع فريق، يحدّدُ بسطوة سلاحه ودوره سقفَ أيّ تحرّك، إلى مواجهةٍ بديلةٍ مفتوحةٍ تسقط هذا السقف عبر إسقاط "هيكل الدولة" الذي يصادرها؛ فتكون النتيجة انكفاء "الحزب" إلى داخل المربّع الشيعيّ، والذهاب باتجاه تدويل الأزمة اللبنانية، وتثبيت معادلة انفصال وطلاق كلّيّ أو تطبيق الطائف كما هو، برعاية دوليّة.
 
طريقٌ وعر
ولتفادي سوء الفهم ومخيّلة المحلّلين بما يختصّ بـ"هيكل الدولة"، فالمقصود تعطيل النظام أو الهيكل الذي كانت تحرّكه سوريا، والذي انتقلت دفّة قيادته إلى "حزب الله"، أي - بالمختصر - عدم الخروج عن مبدأ الجدليّة الذي يحكم المجتمع والسّلطة.
 
طريقُ أمر العمليات هذا وعرٌ عسير، لكنّه ليس مستحيلاً. أولاً، إذا انطلق من مبدأ الذهاب كمجتمع لبنانيّ متكامل إلى المواجهة لا كقوى منفردة، تماماً كما حصل في 14 آذار، وانتفاضة 17 تشرين؛ وثانياً، لأنّ مسألة تهيئة الأرض لثورة من طبيعة سياسيّة اجتماعيّة تدفع باتجاه تسوية نهائيّة أمرٌ ممكن، على ضوء الاستنزاف الحاصل الذي أوصل اللبنانيين إلى حدّ الكفر بالأرض والوطن، فتحوّلت فكرة التقسيم عنده إلى أكثر من أمنية بل إلى دعوة تَختمر في فكر اللبنانيين ووجدانهم لتصبح حقيقة ثابتة لحلٍّ طال أمده.
 
لقد أصبح البلد واللبنانيون في مكان آخر، وضمن مشهد مختلف. لذلك، إذا لم يتمّ الاتفاق على رئيس يقف على مسافة من الطرفين، "حزب الله" والفريق السياديّ، ويكون لبنانياً، أي يُعطي وزناً لمشروع الدولة، وإنتاج سلطة قوامها رئيس جمهورية ورئيس حكومة وحكومة لا يتأثرون بالسّلاح، فإنّ الوضع سائر نحو الانفجار. وإذا قرّر الحزب تحدّي الجميع، وتمديد وضعيّته في السلطة، فقد يجد نفسه أمام ضغط كبير، داخلياً ودولياً وعربياً، لأن اللبنانيين يرفضون البقاء على ذمة 8 آذار، وفي عزلة عن الشرعيّتين العربية والدولية.
 
الرهان الخارجي
هذه الاستراتيجية تحتاج من دون شكّ إلى تغيّرات إقليمية ومعطى دوليّ لاستكمال عناصر نجاحها، خصوصاً أن تخلّي إيران و"الحزب" عن موقع متقدّم وحسّاس في لبنان كموقع رئاسة الجمهورية أمر ليس بالسهل. لكنّ تجربتَي ثورة الأرز، وانتفاضة 17 تشرين في التموضع ضمن مساحة لبنانيّة صافية مشتركة، مؤشّر على أنّ تأمين التوازن بوجه وَهْم قوة "حزب الله" يكون عبر مشروعٍ لبنانيّ صرف ووحدة وطنيّة متراصّة، تجعل من الفريق السياديّ قوّةً وازنةً، تستجلب الاهتمام والدعم الدولي وحتى الإقليمي.
 
لقد أثبت شعبُ لبنان قدرةً كبيرة في محطتين مهمّتين: 14 آذار و17 تشرين، والأمل معقود على أن يُدرك حجم المسؤوليّة الملقاة على عاتقه مستقبلاً، وأن ينتفض بقوّة هذه المرّة. فالمطروح اليوم هو "الاحتلال الإيراني للمنطقة من اليمن إلى العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان. فمعركة صلاحيات الحكومة المستقيلة وانتخاب رئيس يبدو تفصيلاً، فيما التحدّي بأن نتوحّد مسلمين ومسيحيين في مواجهة الاحتلال وأدواته، أو أن نسقط فرادى في معارك جانبيّة كما يحصل اليوم خدمة لحزب الله ومشروعه" (3).
 
********************
1- الهَسْهَسَةُ عامٌّ في كُلِّ شَيْءٍ لَهُ صَوْت خَفِيّ كَهَسَاهِسِ الإبلِ في سَيْرِها.
2- النقر: صوت رجلي الحصان عند المشي على أرض صلبة.
3- تغريدة لرئيس "المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان" فارس سعيد.