المطران عوده: ما نعيشه في لبنان حالياً يُنذر بالأسوأ

أكد متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده أنّ "إِنجيلُ اليَوم، دَينونَةٌ لِكُلِّ مَن يَـدَّعي المَسيحيَّةَ ولا يَرحَمُ أَخاهُ الإِنسان. لا بُــدَّ هنا من التساؤل أَينَ نَحنُ مِنَ الرَّحمَةِ في لُبنان؟ أَينَ الزُعَـماءُ في بلدنا مِنها، المَسيحِيُّونَ منهم خصوصًا؟ أَينَ الرَّحمَةُ في قلوبٍ تَرفُضُ سَماعَ الأَنينِ المُتَصاعِدِ مِن نُفـوسِ المُواطِنينَ وقُلوبِهِم وأَجسادِهِم؟ الغَلاءُ الفاحِشُ أَدخَلَ المُواطِنينَ في يأسٍ مُظلم. حالاتُ الإنتِحارِ تَـتَــزايَـدُ بَينَ صُفـوفِ الشَّبابِ الَّذين لا يَرَونَ مُستَـقـبَـلًا أَمامَهُم. أَينَ الرَّحمَةُ والمُستَشفَياتُ تـَئِـنُّ بِسَبَبِ انقِطاعِ المَعَدَّاتِ اللَّازِمَةِ والأدويةِ التي لا يُستغنى عنها لِمُتابَعَةِ عَمَلِ الرَّحمَة؟ أَينَ الرَّحمَةُ وأهـلُ الأحياء المنكوبة لم يعودوا إِلى مَنازِلِهم بَعدُ، والشِّتاءُ يَطرُقُ أَبوابَهُم المُخَلَّعَة وسقوفَهم المكشوفة؟ أَينَ الرَّحمَةُ والبَطالَةُ مُستَشرِيَةٌ وكُــلُّ القِطاعاتِ مهدّدةٌ بأَشباحِ الإفلاسِ والإقــفالِ؟ أَينَ الرَّحمَةُ في دَولَةٍ مُهتَرِئَةٍ لَمْ يَـعُـدْ فيها سِوى بِضعَةُ كَراسٍ يتشبَّث بها الجالِسونَ عَلَيها، يتحكّمون بمَن بَقِيَ في أَرضِ الوَطَن، إن بسبب الفـقـر أو لأنهم عازمون على البقاءِ في أرضِ آبائهم وأجدادِهم".

وتساءل في قداس الأحد: "أهكذا يكونُ الحرصُ على حقوق المسيحيين كما يدّعي البعض، أو على حقوقِ المواطنين عامةً؟ أليس عيبٌ أن نميّـزَ بين مواطنٍ وآخر وندّعي حمايةَ مواطنٍ على حسابِ مواطنٍ آخر؟ أليس واجبُ المسؤولِ العملَ الدؤوبَ من أجل كلِّ المواطنين؟ أليست العدالةُ والمساواةُ سِمَــةَ الدولةِ التي يحكمُها القانونُ، والقانونُ وحدَه؟ المسؤولُ الحقـيـقـي لا ينامُ إن كان مواطنٌ في بلده يتألمُ. فكيف ينامون والبلدُ يُحتَـضَـر، والاقتصادُ قد انهار، والليرةُ فـقـدتْ قيمتَها، والهجرةُ تضاعفـتْ، والبؤسُ عَـمَّ".

وأضاف عوده: "ما يؤرقني أنّ معظمَ المواطنين لم يتمكنوا من ترميمِ منازلِهم بعد، والشتاءُ قادمٌ. فمن يحمي هؤلاء المواطنين، ومن يحمي التراثَ العمراني والمنازلَ الأثرية، وجمالاتِ فنِ العمارة؟ لقد دُمّرتْ أحياءٌ ذاتُ طابَعٍ تراثي، وسُفـكتْ أحلامُ شاغليها. هذه الأحياءُ تختزنُ ذاكرةَ بيروت. لقد قاومتْ الحروبَ وصمدتْ في وجهِ محاولاتِ هدمِها أو احتلالِها أو شرائِها وتغييرِ معالمِها، وواجهت الأعاصيرَ بقـوةِ إيمانِ أبنائِها ولم تستسلمْ. لكنّ الإهمالَ وعدمَ المسؤولية وكلَّ الأسبابِ المعروفةِ وغيرِ المعروفةِ التي أدّتْ إلى انفجار 4 آب فَجَّــرتْها رغماً عنها، فاختلطتْ أشلاؤها بأشلاءِ أبناءِ الأشرفية والرميل والجميزة والمناطقِ المحيطة بالمرفأ، وحتى اليوم لم يعرفْ أهلُها نتيجةَ التحقـيق، واللبنانيّون في حزنٍ وألمٍ وغضبٍ، ولم يُـبرِّدْ غَـضَـبَـهم اهتمامٌ من دولتهم واحتضانٌ من مسؤوليها. يتساءلُ البعض هل هناك من تحقيق؟ هل تعلمون أنَّ هذا الإنفجار هو الثالث على مثال ما حدث في هيروشيما ونكازاكي؟ وبعد 4 آب ما عُدنا سمعنا عن أي تحقيقٍ على مستوى هذا الإنفجار والناسُ تنتظِر لأنَّ هذا الحدث يجعلُك في أرقٍ دائم وخوف. فهل الهدفُ إلغاءُ ذاكرةِ بيروت وتشريدُ أهلِها؟".

وقال: "الخبراءُ وذوو الاختصاص وبعضُ المثـقـفـيـن يولون التراثَ الحضاري والموروثَ الثقافي اهتماماً بالغاً. والغربُ يحافظُ على أبنيتِه التراثية ويصونُها لأنها ذاكرةُ الوطن. عِمَاراتُنا تحوّلتْ إلى أشباحِ بنايات، وأحياؤنا إلى خرائب، ومواطنونا إلى طالبي هجرة، ومَـنْ في يدِهم السلطةُ يضيّعون الوقتَ في خلافاتِهم العقيمةِ، ومطالبِهم التعجيزيةِ، والتمسكِ بمكتسباتِهم ومصالحِهم على حسابِ الوطنِ وأبنائِه. ما يدفعُــنا إلى السؤال: هل هناك نيةٌ حقيقيةٌ للعملِ والإنقاذِ والإصلاحِ الحقيقي؟ وهل يعملون عند ربِّ عملٍ واحدٍ اسمُه لبنان أم هناك من هو أغلى وأكبر وأهم؟".

وتابع في عظته: "نعودُ إلى المحبةِ التي هي الفضيلةُ العظمى وأمُّ كلِّ الفضائل، منها ينبع التفاني والتضحيةُ والتواضعُ والعطاء. نَقولُ في القُدَّاسِ الإِلَهِيّ: «رَحمَةَ سَلامٍ، ذَبيحَةَ تَسبيح»، مُشيرينَ إلى الــتَّــقـدِمَـةِ الَّتي يَشاؤُها الــرَّبّ. إِنَّـهُ يُريدُ الرَّحمَةَ والسَّلام. «أريدُ رحمةً لا ذبيحةً». لا يُعقل أن تقدّمَ ذبيحة تمجيدٍ لله قبل أن نقدِّمَ ذبيحة محبّتنا. وكما يكتب القديس باسيليوس الكبير، فالغاية الوحيدة من تقديم الذبائح هي الرحمة والمحبَّة. والذبيحة المقدَّمة بمحبة هي ذبيحة مرضيَّة عند الله. إنَّها ذبيحة تمجّد محبَّته وتسبّحها، إذاً هي "ذبيحة تسبيح". هذه الذبيحة يطلبها الله منّا من خلال مرنّم المزامير: "اذبح لك حمداً"، أي ذبيحةً شكريَّةً. ما يقصده النبي داود في المزامير أن تعيش على نحو يتمجَّد فيه الرب. لا يريدُ الرب الإقـتِتالَ والتَّخوينَ ورَميَ بُـذورِ الفِــتــنَةِ والحَرب. ما نَعيشُهُ في لُبنانَ حالِيًّا يُـنـذِرُ بِالأَسوأ، لأَنَّ المَحَبَّةَ لَم تَـعُـدْ تَسكُـنُ الـقُـلوب، والرَّحمَةَ غادَرَتْ إلى غَـيرِ رَجعَة. الكُــلُّ أَذنَـبوا بِحَقِّ هَـذا البَلَدِ الحَبيبِ النَّازِف، ولا يَـزالونَ جَميعًا يَحومونَ حَولَ الجُـثَّـةِ لِيَـتَـقـاسَموها. سَلِّموا لُبنانَ الجَريحَ إلى مَن يَستَطيعُ تَضميدَ جِراحِه، ولا تَنتَحِلوا صِفَةَ الجَرَّاح لأَنَّــكُم تَزيدونَ الجُروحَ التِهابًا. إِرحَموا لُبنانَ وشَعبَهُ الصَّامِدَ، يَرحَمْـكُمُ الله"، مضيفاً: "اليَوم، دعوتُــنا إلى المَسؤولين أَنْ يتعرَّفوا على الرحمةِ كَي يَرحَمَهُمُ اللهُ العلّي ومنه الشَّعبُ والتَّــاريخُ فـيما بَعد. بارَكَــكُمُ الـرَّبّ، وزَرَعَ في قلوبِكُـمُ المَحَبَّةَ الحَقـيقـيَّةَ، حَتَّى يَعودَ الأَمَلُ إلى كُــلِّ الـنُّـفوسِ المكسورة والقُلوبِ الحَزينَةِ واليائِسَة، آمين".