الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

لأن المواطن خسر كل شيء... أطباء يرفضون الهجرة من أجل مرضاهم ووطنهم

المصدر: "النهار"
كارين اليان
كارين اليان
أطباء هاجروا وآخرون يرفضون الرحيل لأن الطب رسالة
أطباء هاجروا وآخرون يرفضون الرحيل لأن الطب رسالة
A+ A-

قبل أشهر قليلة، أطلق نقيب الأطباء شرف أبو شرف صرخة عبر "النهار" عبّر فيها عن قلقه حيال ما قد يؤول إليه الوضع في القطاع الطبي نتيجة هجرة الأطباء بأعداد كبيرة. وفي الشهرين الماضيين بدا واضحاً أن أعداد الأطباء الذين غادروا وأولئك الذين اتخذوا قرار المغادرة، زادت بمعدلات لافتة، ما أثار حالة من الارتباك والقلق حيال ما يمكن أن ينتج عن ذلك من تحديات أمام القطاع الطبي الذي يخسر العشرات لا بل المئات من أطبائه الكفوئين بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية وما يترتب عليها من تحديات.

صحيح أن الأزمة الاقتصادية طالت الكل ومختلف القطاعات. للوهلة الأولى يبدو الأطباء من الفئات الأكثر قدرة على مواجهة هذه التحديات. في الواقع، لكل مواطن ظروفه ولكل طبيب التزامات ومسؤوليات وظروف قد لا يدركها الكل، ما يجعل الخطوات التي يمكن ان يقوم بها أي منهم مبررة.

وفي مقابل، عشرات الأطباء، لا بل ربما المئات، من الأطباء الذين غادروا البلاد، هناك من كان قرارهم مختلفاً. هم الذين قرروا التمسك بالوطن وبمرضاهم فيه، وبتأدية الرسالة الإنسانية التي أقسموا اليمين على صونها في بلادهم حتى اللحظة الأخيرة. من المؤكد أن لكل ظروفه، وممن غادروا من فعل ذلك مرغماً، بسبب التزامات ومسؤوليات مختلفة. لكن هناك قصصاً لمن رفضوا المغادرة على الرغم من العروض التي أتتهم والفرص الكثيرة التي تفتح لهم المجالات التي يطمحون إليها، خصوصاً أن معظم هؤلاء كانوا خارج لبنان للدراسة وعادوا من سنوات والمجال يبقى مفتوحاً لهم للمغادرة متى أرادوا.

الطبيب الاختصاصي في الجراحة النسائية والتوليد والمتخصص في أمراض الجهاز البولي لدى المرأة الدكتور كارل جلاد قرر العودة إلى لبنان منذ حوالي 3 سنوات ويدرك اليوم جيداً انه لو أراد الرحيل فإن الفرص المتاحة أمامه كثيرة، ولن يكون أمامه إلا الاختيار، لكن عوامل كثيرة دفعته إلى التمسك بفكرة البقاء مهما كانت الظروف صعبة. "علاقتنا كأطباء مع المرضى في لبنان تختلف عما هي عليه في الولايات المتحدة  الأميركية، حيث تكون علاقة المريض بالمستشفى حصراً، فيقابل الطبيب فيها. أما في لبنان فتولد مع المريض علاقة خاصة مختلفة تماماً". بالنسبة إلى جلاد، هو يؤدي رسالة، وما يقوم به ليس مهنة. فلا ينكر أن الأطباء ككافة المواطنين تأثروا بالأزمة، لكن يبقى وقعها عليهم أخف وطأة مقارنةً بباقي الفئات، نظراً لمدخولهم المادي الأعلى، وإن كان المدخول الذي تراجع انعكس على نمط حياة الطبيب بشكل واضح، فلم يعد بالمستوى نفسه.

ويقول في حديثه إلى "النهار" إذا كانت الدولة قد تخلت عن مواطنيها فلا يمكن للأطباء أن يفعلوا بهم بالمثل فيتخلوا عن مرضاهم. فقد خسروا كل شيء ومن الضروري أن يبقى لهم أطباؤهم إلى جانبهم على الأقل. وكثيرون يفكرون بهذه الطريقة ويصرون على البقاء دعماً للوطن وللبنانيين. هذا فيما يؤكد أن الناس يواجهون المشاكل مع المستشفيات اليوم وليس مع الأطباء، فمعظم الأطباء اليوم على استعداد لتقديم الرعاية لمرضاهم دون مقابل مادي، لاعتبار أن واجبهم إنساني، وهدف الطب ليس تجارياَ، وسيستمرون في أداء الواجب هذا حتى النهاية. "رحيل أطباء خسارة كبيرة ولا شك في ذلك، لكن هذا لا يعني أنه لم يعد لدينا اطباء، فلدينا الكثير منهم من الذين هم أكثر كفاءة. لن ننكر أبداً أننا كأطباء تأثرنا، فنحن من المواطنين، لكننا لسنا الأكثر تضرراً، ولو تراجع الوضع المعيشي   أن نحتمل مع المواطنين ومع مرضانا ونقف إلى جانبهم".

 

أما بالنسبة إلى قرار الرحيل، فقد يُتخذ برأيه خلال ما لا يقل عن سنة. إلا انه يدرك جيداً أن لكل من الأطباء الذين رحلوا ظروفهم الخاصة، ومن المؤكد أن الذين يعملون في المستشفيات المحيطة بموقع انفجار مرفأ بييروت هم الأكثر تضرراً وتأثراً بالواقع، وقد يكون هذا أيضاً أحد الأسباب التي يمكن أن تدفعهم إلى الرحيل.

طبيبة الطوارئ في مستشفى الجامعة الأميركية الدكتورة إيفلين حتي اختارت أيضاً البقاء في لبنان على الرغم من الظروف. تؤكد أن الصعوبات الكبرى اليوم يواجهها الطاقم الطبي في الصفوف الأمامية مع كورونا، نظراً لما تتعرض له سلامتهم الشخصية من تهديد وذلك بشكل خاص نتيجة النقص في مستلزمات الوقاية والبيئة الآمنة في مختلف المستشفيات.  من جهة أخرى توضح انه لدى معظم الأطباء التزامات وقروض ضخمة عليهم تسديدها ومع الظروف الحالية من الطبيعي أن يواجهوا المزيد من التحديات. فالطبيب يحقق المزيد من المكاسب المادية، لكن في الوقت نفسه لديه قروض كبرى. لا تنكر حتي أنه كانت لديها قروض كبيرة لأميركا انتهت من تسديدها قبل الأزمة، ولولا ذلك لما استطاعت الاستمرار في لبنان. علماً أنها كانت قد عادت إلى لبنان قبل 11 سنة، وهي تدرك جيداً أنها لا تعود إلى منطقة مستقرة. "كان هدفي عندما عدت أن أعطي بلدي وأهله وبيئتي. ترعرعت خارج لبنان وأعرف جيداً سلبيات ذلك وإيجابياته. اليوم أرى أهلي في وجوه مرضاي وما أبحث عنه هنا هو الرضى الذاتي والاكتفاء الذي أجده في خدمة مجتمعي بغض النظر عن الظروف. على من يبقى أن يحافظ على الأمل بغد أفضل ليتخطى الضغوط، خصوصاً ان الهدف هو رحيل الكل ويجب ألا نسمح بذلك. لذلك علينا أن نستعد للمواجهة".

صحيح ان الطبيب يبدو لحتي أكثر قدرة على تحمل الضغوط مقارنة بباقي الناس، لكن في الوقت نفسه لكل طبيب التزامات ولا يتمتع الكل بحرية الاختيار بحيث لا يمكن إلقاء اللوم على أحد في حال اتخاذه قرار المغادرة. فالمرحلة صعبة حتى أنه يصعب على الطبيب اليوم تأمين مستوى الرعاية كالسابق والامور صعبة حتى على صعيد الأبحاث وقد لا يكون ممكناً العمل على تطوير الذات والاستمرار في مثل هذه الظروف.

يبدو هذا حال الكل من أطباء وغيرهم. فما من مواطن لم يتأثر وضعه المعيشي بسبب الأزمة. وهذا ما يؤكده الطبيب الاختصاصي في جراحة العظام وإصابات الرياضة الدكتور حسن بيضون، لكن في الوقت نفسه لا يبدو له ممكناً أن يزيد الطبيب التعرفة على المواطنين.
"وراء مهنتنا رسالة إنسانية لا يمكن ان نتخلى عنها مهما كانت الظروف. أما التضحيات التي نقوم بها اليوم كأطباء فعلى نطاق فردي دون أي دعم من المستشفيات أو الدولة".

اتخذ بيضون قراراً بالبقاء في لبنان رغم الظروف. أما شقيقته الطبيبة فاضطرت إلى المغادرة. فيشير إلى أنه خريج هرفرد والفرص المتاحة له ليغادر كثيرة، لكنه قرر العودة إلى لبنان عام 2016 وقرر اليوم البقاء فيه رغم الظروف، معتبراً أن هذه التضحية يستحقها الوطن طالما أن الفرد وتحديداً الطبيب قادر على القيام بها وظروفه تسمح بذلك.

مما لا شك فيه أن الظروف صعبة حالياً وقد تفرض على كثيرين المغادرة، لكن قرار التضحية والوقوف إلى جانب الوطن واللبنانيين اتخذه كثيرون بغض النظر عن ظروفهم، علّ ذلك يساعد على النهوض بالوطن وتأمين غد أفضل يشبه ما نحلم به كلّنا اليوم. لم يبقَ فعلاً للبنانيين إلا القطاع الطبي الذي لا يزال قادراً على مواجهة التحديات، خصوصاً مع انتشار جائحة كورونا. وثمة حاجة ماسة لمزيد من التضحيات من أجل المتابعة في هذه الرسالة الإنسانية في مهنة الطب والتي يعوّل عليها اللبنانيون اليوم أكثر من أي وقت مضى بعد أن فقدوا كل شيء.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم