قصة ممرضة

-1-
نحلم دائماً بأن نكون سعداء، ولكن سرعان ما يتبدد ذلك الحلم لترتسم ملامح مرحلة مختلفة ولوحة تسودها الفوضى والظلم وعدم المساواة، وتتبدد لحظات السعادة ويصبح الحزن وخيبة الأمل مرسومين على وجوهنا.
وهذا ما كنت أراه في وجه والدي الحالم بحياة أفضل لي ولأخوتي. لطالما كان يعمل بجد ونشاط ليدفع لنا ثمن الطعام والشراب والملابس عند ذهابنا إلى المدرسة.
كان والدي قاسياً صلباً في بعض المواقف ومرناً في مواقف أخرى، هو ذلك الأب الذي يعشق أطفاله ويريد لهم حياة أفضل، حياة مليئة بالسعادة والفرح.
وهذا ما كان يظهر على وجهه، هو الذي كان يغيب مطولاً عن المنزل ويعود فأنظر في وجهه فأجده متعباً مجهداً، لكنه لم يكن ليظهر ذلك التعب.
-2-
كان والدي يحب الوطن كثيراً وكان يدافع عنه دائماً، فقرر أن ينتسب إلى مصنع البطولة والفداء جيش الوطن والدرع الحصين. لم يكن يدرك والدي أن الثمن سيكون حياته كلها.
كان همه الوحيد أن يعلمنا حب الوطن والإيمان به، فقررت أن الفتاة الطيبة غرام عليها أن تنتسب إلى سلك التمريض، لأنني وباختصار أحب أن أساعد الناس وأسعفهم، وبالفعل هذا ما كنت أفعله وهذا ما كان يجعل والدي يفتخر بي ويعتز بعملي.
وقد كان أخي الأكبر محمد مثل أبي تماماً يحب الوطن ويدافع عنه دائماً وقرر بتشجيع من والدي أن ينتسب إلى جيش الوطن حامي الوطن والدرع الحصين.
وعندما اندلعت حرب شعواء ساد فيها الظلم والقتل والإرهاب، كان لابد من التصدي للإرهاب والظلم معاً.
وفي إحدى المعارك الشرسة أصيب أبي إصابة بليغة من ناحية القلب واستشهد في الطريق إلى المستشفى. لم أستطع رؤيته لأنه كان بعيداً، لكنني رأيت كفنه ورأيت علم الوطن يلفه فبكيت كثيراً حتى جفت المآقي.
-3-
أبى الليل ألا أبقى حزينة جداً، وبعد فترة أصيب أخي عدة إصابات بليغة فآثرت أن أنقذه ولو كلفني ذلك حياتي، وخرجت في سيارة الإسعاف مع أصدقائي إلى مكان الخطر فوجدت أخي مرمياً على الأرض والدم ينزف من صدره ومن يديه ومن قدمه اليمنى. وضعناه في السيارة وقد استلقى على ركبتي وقد كان يتألم كثيراً ويقول لي: "سلمي على أمي يا أختاه"،
وأنا أبكي بحرقة وألم، وكأنه كان يعلم أنه لن يصمد طويلاً، لم أعد أعلم ماذا أفعل له، أبكي، أضغط على صدره بشدة لكي لا يموت، ولكي يبقى،
قلبه يضخ الدماء ولكنه لم يصمد لنصل إلى المستشفى، واستشهد في الطريق وفقدته.
هي الحياة هكذا تسرق منا كل شيء جميل، ونعيش على أمل أن تعود تلك اللحظات لنعيش سعادة حقيقية. لم يعد لي بعد أبي وأخي معيل ووالدتي أصبحت كبيرة في السن ولم تعد قادرة على العمل، وأختي الصغيرة تدرس في المدرسة وما زالت لا تفهم الحياة جيداً وهي بحاجة لمن يهتم بها ويكون معها دائماً.
-4-
قررت أن أعمل في تنظيف المنازل لكي أعيل والدتي وأختي الصغيرة، ولأن العيش أصبح باهظ الثمن أخذت أعمل ليل نهار بدون كلل أو ملل وأحسست بأني أم وأب في وقت واحد.
وفي أحد الأيام وفي منتصف الليل اتصلوا بنا وقالوا لنا إن أحدهم يصارع الموت وعلينا أن نسعفه بسرعة قبل أن يفقد حياته، فركبت سيارة الإسعاف وقدتها بنفسي إلى المنزل ليتبين لي بأنه المنزل الذي كنت أعمل به من قبل، لكنني لم أكترث لذلك، فحياة الناس أهم عندي بكثير. دخلت وأنقذت صاحب المنزل الذي كانت زوجته تبكي بألم وحرقة، وعندما أسعفته أصبح بحال جيدة فقال لي: "والله أنت ملاك يا ابنتي وفقك الله في كل ما تفعلين".
وما زالت كلماته تلك تطن في أذني. وبعد فترة من الزمن قررت أنه لابد لي من زوج يعيلني ويكون سنداً لي في حياتي، فأنا في النهاية فتاة وعلي أن أرسم مستقبلي بنفسي.
-5-
وعندما وجدت ذلك الشخص قررنا أن نتزوج، اشترط علي أن أدع أهلي وشأنهم وأن أذهب معه وأترك والدتي وأختي الصغيرة لمصير مجهول.
لكنني لم أقبل بذلك ورفضت ذلك رفضاً قاطعاً. لن أتخلى عن أهلي مهما كان الثمن ولو كان يحبني. صحيح لكان سنداً حقيقياً لي ولوالدتي وأختي الصغيرة. فقررت أن أبقى وحيدة كسفينة تصارع أمواج البحر المتلاطمة وتصمد في وجه أعتى العواصف.