ما أشبه اليوم بالبارحة!

ما أشبه اليوم بالبارحة!
ما زلت أذكُر نفسي طفلة لم تبلغ التاسعة بعد، تجلس مذعورة أمام نشرة الأخبار لتشاهد طفلاً في مثل عُمرها
Smaller Bigger
ما زلت أذكُر نفسي طفلة لم تبلغ التاسعة بعد، تجلس مذعورة أمام نشرة الأخبار لتشاهد طفلاً في مثل عُمرها - ربما يكبرها بعامٍ أو اثنين على أكثر تقدير- يُقتَل بينما هو يصرخ مُحتمياً بوالده، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، من دون أن يتحرك أحدهم ولو أنمُلة من أجل إيقاف هذه المأساة.
ما زلت أذكر ذلك اليوم حين وقفنا، أنا وأختي، نرجو والدتنا لتسمح لنا بالخروج في المظاهرة التي قامت بعض زميلاتنا بتنظيمها، عقب انتهاء اليوم الدراسي. وعندما لم نستطِع، وقفنا نهتف في فناء المدرسة تنديداً بالمجازر التي تحدث في فلسطين، ورغبةً منا في دعم أقراننا هنا كالذين ما كانوا يملكون للدفاع عن أنفسهم أمام رصاص الاحتلال الغاشم آنذاك سوى قطع حجارة كانت هي سلاحهم الوحيد.
أذكر أيضاً أول نصّ كتبته تضامناً مع القضية الفلسطينية حين كنت في التاسعة؛ كان شعراً، أو هكذا حاولت أن أجعله يبدو، وكان ينبض بالحماسة، بالرغم من عباراته الطفولية التي ما زلت أحفظها عن ظهر قلب، تماماً كما حفظت آنذاك تلك القوائم التي كانت تتضمن كافة المطاعم والشركات المراد مقاطعتها، نظراً إلى دعمها للكيان المُحتَل؛ تلك القوائم التي كان يقوم البعض بطبعها وتوزيعها، حيث لم يَكُن قد ظهر بعد أيٌ من وسائل التواصل الاجتماعي.
ما زلت أذكر كلّ ما شاهدت وما قرأت، ما سمعت وما كتبت؛ أذكر كلّ شيءٍ حدث حين كنت في التاسعة، وأسترجعه الآن بينما أنا أجلس لأتابع نشرة الأخبار بنفس القَدْر من الذُعر، لأرى كلّ شيء حدث قبل ثلاثة وعشرين عاماً يتكرّر مرّة أخرى بكافة تفاصيله، ولكن بصورة أبشع وأكثر وحشية، ولأكتشف أن المرأة التي أصبحت عليها الآن بينما أنا في الثانية والثلاثين من العُمْر، ما زالت تحوي بداخلها قلب الطفلة ذات التاسعة بكلّ ما كان يحمله من ذعرٍ وغضبٍ وألم.
كل شيء يتكرّر، القصف والدمار، البكاء والعويل، المجازر الوحشية والموت. ربما لا شيء يتكرر على أرض فلسطين بقَدْر تكرار الموت. لا، ليس موتاً، بل هو مسلسل من القتل الغادر الذي لم ينقطع على مدار الخمس وسبعين سنة الماضية، والذي لم يذهب ضحيته فردٌ أو اثنان أو حتى مئة، بل أجيال كاملة.
بحسبة بسيطة، أدركت أن مَن فقدوا أبناءهم اليوم، هم أنفسهم من كانوا أطفالاً في مثل عُمري يحملون حجاراتهم قبل ثلاثة وعشرين عاماً؛ هم أبناء مَن كانوا أطفالاً يوم شهدوا ضياع الأرض عام ١٩٦٧، وأحفاد أطفالٍ آخرين دُمِّرَت قُراهم، وقُتِلَ آباؤهم، جرّاء نكبة ١٩٤٨. أجيال تُسلِّم أجيالاً، تُسلِّمهم العزة والإباء، مثلما تُسلِّمهم راية القضية، ومأساة الفَقد بكافة أشكالها وصورها، بينما نتسلّم نحن مشاعر الغضب الممزوجة بالعجز والألم على مرّ السنوات، ومع كل كارثة تقع لتوقظ عروبتنا وإنسانيتنا من سُباتها.
أتأمل صور من هُجِّروا من أرضهم قسراً في الماضي، وقد تكدسوا في شاحناتٍ، تسير بهم نحو المجهول برفقة من تبقى من عائلاتهم على قيد الحياة - هذا إن كان هناك مَن تبقى منهم حياً- حاملين مفاتيح منازلهم، والقليل من أمتعتهم على أمل عودةٍ قريبةٍ، لأرى ذات المشهد يتكرر اليوم بكافة تفاصيله، الغدر والتدمير، عمليات الإبادة الجماعية والتهجير، والسير نحو المجهول؛ ما من شيءٍ تغيَّر بين الماضي والحاضر سوى ألوان الصورة، أمّا الأحداث، فما أشبه اليوم بالبارحة!
عشرة أيام قد مرت الآن، والوضع يزداد سوءاً، ومأساويةً، وثِقَلاً على النفس والروح. عشرة أيام بلا ماء، ولا كهرباء، ولا طعام، ولا شيء على الإطلاق سوى عناية الله ورحمته. صارت صور الجثث المكدَّسة، والأمهات المكلومة، والمنازل المُهَدَّمة فوق رؤوس أصحابها، تطاردني في صحوي وفي منامي، وتحول بيني وبين التفكير في أيّ أمرٍ آخرٍ لا علاقة له بالأحداث الجارية. نعم، نحن لسنا بغزة، ولكن قلوبنا وعقولنا برمَّتها هناك؛ لذا، وإن كنا لا نملك من أمرنا إلا الدعاء، فلندعُ الله كثيراً حتى تتبدّل الجنازات إلى مواكب احتفال، وتحلّ الزغاريد محل البكاء والعويل، وحتى يأمن الأطفال وتتعمر المنازل، وحتى يحظى هذا الشعب الأبيّ بحقّه في الحياة، والأرض، والزيتون والبرتقال. سندعوه حتى تنفذ الدعوات، وتتحقق الأمنيات، ويرزقنا المعجزات. سندعوه بكلّ ثقة وإيمان من دون كلل أو يأس، لعله يستجيب...


الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/6/2025 12:01:00 AM
لافتات في ذكرى سقوط نظام الأسد تُلصق على أسوار مقام السيدة رقية بدمشق وتثير جدلاً واسعاً.
المشرق-العربي 12/6/2025 1:17:00 PM
يظهر في أحد التسجيلات حديث للأسد مع الشبل يقول فيه إنّه "لا يشعر بشيء" عند رؤية صوره المنتشرة في شوارع المدن السورية.
منبر 12/5/2025 1:36:00 PM
أخاطب في كتابي هذا سعادة حاكم مصرف لبنان الجديد، السيد كريم سعيد، باحترام وموضوعية، متوخياً شرحاً وتفسيراً موضوعياً وقانونياً حول الأمور الآتية التي بقي فيها القديم على قدمه، ولم يبدل فيها سعادة الحاكم الجديد، بل لا زالت سارية المفعول تصنيفاً، وتعاميم.
اقتصاد وأعمال 12/4/2025 3:38:00 PM
تشير مصادر مصرفية لـ"النهار"  إلى أن "مصرف لبنان أصدر التعميم يوم الجمعة الماضي، تلته عطلة زيارة البابا لاون الرابع عشر الى لبنان، ما أخر إنجاز فتح الحسابات للمستفيدين من التعميمين