الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

قصّة نسيانٍ عن وطنٍ أفقدنا الذاكرة

المصدر: النهار - ماري جو متى
رأيته يجلس في مكانه المعتاد.
رأيته يجلس في مكانه المعتاد.
A+ A-
رأيته يجلس في مكانه المعتاد. يحتسي ثلاثة أكواب من القهوة. يقرأ جريدته ويتصفّح كتاباً. دخّن علبتي سجائر، وضع نظّاراته السود، وبكى. كنت ألتقي به كلّ يوم في المقهى نفسه وفي الوقت نفسه، دون أن أجرؤ على مكالمته. سمعت أنّه كان ينتظرها، أو ربّما خيّل لي.
كانت دموعه ليست سوى التي يذرفها المرء حين لم يعد لديه شيء ينتظره. كانت تشبه تلك التي ذرفناها في أمسية الوطن، قبل من هجرها، وحتّى قبل من خدعها. سمعت أنّه كان يجلس كثيراً على الوقت، منتظراً منها أن تأتي. سمعت أنّه كان يخلع عباءته السوداء منتظراً منها أن تمرّ. كما سمعت أنّه لم ينتظر سواها، كما لو أنّها هي الوقت، وكلّ ما تبقّى له، عابر سبيل. راح يرسمها ويلوّن ذكراها، لكّنها لم تأت. تذكّر أنّها كتبت عنه ذات مرّةٍ في رواية، عندما كانت ممدّدة على مفترق طريق علاقتهما، تدفنه بكلماتها، وتقارن فشلها بفشله. تذكّر أنّه عندما سألها لماذا لا تكتب وهي معه، أجابته بأنّها لن تكتب إلّا عندما لن تكون. فالكتابة فنٌّ على عكس الحياة، أي على عكس الحبّ.
الحبّ، قضيّةٌ أيضاً، كما السياسة والفقدان. إلّا أنّنا كمجتمع عربي لا نحترف سوى الثالثة منهم. فعلاقتنا بشهدائنا ليست سوى نقص حبّ، أو الأصحّ، ليست سوى علاقة حبّ مع أوطانٍ لم تبادلنا الشعور نفسه. تخيّلوا كم من مرّةٍ سمحنا لأنفسنا أن ننهزم، دون أن يرفّ لنا جفنٌ على فقدان كبريائنا وكرامتنا.
كانت تشبهه في كلّ شيء، في تناقضها الرهيب وانسياب شعرها المملّ، في قوّة فجائعها وتعاملها مع الصمت، في أسلوب كتابتها المتوحّش والشهواني، في جنونها وفي عبقريّة تخلّيها عنه وعن ماضيها. كانت تشبه انحرافه وانحراف أسلوبه في اتّخاذ القرارات وسط ردود الفعل المفاجئة. كما كانت تلتقي به في نصوصها أكثر ممّا التقت به في المقاهي. وهو لم يكن يملك سوى الانتظار على كرسيّ أوفى له، منها...
أردت وصفه وقتلها، هي التي لم تكن سوى صورة عن البلاد التي رمته خارجاً، بعيداً عن سريره وأهله وذكرياته وتجاربه. أردت قتلها، بعد أن توقّفتُ عن الكتابة لفترة طويلة. فحين سألت نفسي ماذا يلزمني لأدمّر وأكتب، تذكّرت أنّني محاطةٌ بأمّةٍ محطّمةٍ وعربيّةٍ، لا يفوق عدد قرّائها الواحد في المئة، فالأرقام الصادمة تلقي اللّوم إمّا على القارئ وإمّا على المقروء. وربّما، لا تكمن المشكلة بأيّ منهم، بل تكمن في أنّنا شعوبٌ تعوّدت على الفجائع إلى حدّ أنّها أصبحت تشبهها أكثر من أيّ كتاب. كما تعوّدت على الصمت، فلم تعد الكلمات تشبعها.
شعوبٌ، ذات نزعة مازوخيّة فاضحة، تقيم علاقة مع أوطانٍ تنكّل بها. تتركها بحثاً عنها في الظاهر، إلّا أنّها في الحقيقة تنتظر منها أن تحضنها وتعيدها إليها في أيّة لحظةٍ. تماماً كما يهجر المرأة أو الرجل علاقة عاطفيّة منتظرين نداءً واحداً للعودة، غير آبهين لكبريائهم. فنحن اليوم، رجالاً ونساءً ضحايا أوطانٍ عربيّة تحترف العلاقات العاطفيّة الفاشلة، والساديّة طبعاً.
لست أكتب لأحرّره منها، لأنّني لست كاتبة متحرّرة. بل أنا كاتبة تطوّقها بلادها من كلّ الاتّجاهات، وتعرض الهجرة نفسها بين أحلامها. وما الأحلام سوى عبوديّة؟ فالحريّة الحقيقيّة هي عندما تتوقّف عن الحلم، غير آبهٍ لما سيحدث. الحرّيّة الحقيقيّة هي عندما ترتقي في عالم تقبّل الخسائر واليتم. كما هي مرادف لتجاهلك الوقت المهدور دون أسف.
أغلق كتابه، رفع نظّارته عن وجهه، وتأمّلني. تأكّدت حينها أنّه يحاول نسيانها من خلال كلّ شيء. إلّا أنّه في منطق النسيان، لا نسيان بل ترتيب ذاكرة. تخيّل كم من مرّة رتّبتك ذاكرتي وراحت ترميك تارةً في صفوفها الأماميّة وتارةً في آخرها. وفي منطق المشاعر، لا مشاعر بل رغبات وسدّ نقص. فما هو النقص سوى السعي لتعويض ما نفتقده أينما كنّا، في الكتابة والغرباء والأقرباء وحتّى الأشياء.
كان يحبّها، لكنّها أتقنت الرحيل. تربّت قصّتهما وسط تأرجحٍ دائم بين حقّ المعارك وحقّ الهروب. كان رجلاً لا يجيد الانسحاب من ساحات المعركة، وكانت امرأة متعالية عن البكاء، عسليّة العينين، سوداء الأقلام والأسرار.
جعلها تتمنّى أن يرصدها أينما حلّت، وكأنّه لم يبق سواها على أرضٍ فقدت موتاها. ماذا كانت تنتظر منه؟ أن يعود؟ وأن ترمي نفسها بين وهمها وصورته؟ ماذا كانت تتوقّع منه؟ أن يبحث عنها عندما لم يجدها؟ ولماذا توقّفت عن الكلام واستلقت أرضاً؟ هل لتنساه أم لعدم تذكّر سواه؟
رفع صوت الموسيقى، وأتقن غيابها كما يتقن زوربا الرقص بيدٍ واحدة. أتقنه كما تتقن بلادي إيذائي أنا وعلاقاتي وأهلي وفنّي ورغباتي. لم أتقن شيئاً أنا، كما الجميع، ربّطتنا السياسة والهندسات الرخيصة فتجمّدنا. حتّى إنّنا لم نعد نتوقع الحبّ، ولا نبحث عنه. في ظلّ بحثنا عن أرضٍ مفقودة نحتمي بها، لم نبحث عن الحب؟ إن لم تجدني أرضي فمن لي سواها؟ لا انت ولا أنا، ولا الوطن، ولا هو، ولا هي ولا المقهى...


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم