الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

أَنْ تَتَوَهَّمَ

المصدر: النهار - ايليو زعيتر
في تعريف الذكرى، نجد أنها عبارة عما يحفظ في الذاكرة من حوادث أو مختلف الصور
في تعريف الذكرى، نجد أنها عبارة عما يحفظ في الذاكرة من حوادث أو مختلف الصور
A+ A-
في تعريف الذكرى، نجد أنها عبارة عما يحفظ في الذاكرة من حوادث أو مختلف الصور، ونحن لسنا سوى كائنات عاطفية، نستجدي الذكريات دوماً عند كل استحقاق، نستحضرها وكأنها أرواح مخفية، ننبشها من مقابر الأموات ونحيي عظامها مستخدمين أوهامنا، لتصبح سجناً مشيداً على أنقاضنا، ونصبح أسراها وقلة من استطاعت الإدبار. إن في الحديث عن الذكريات طعماً يجمع متناقضَين، المر والحلو، ولون يجمع متنافرَين، الأبيض والأسود، ذلك أنه يستحيل ولادة كائن هجين نتيجة الجمع الحاصل سالفاً، فالعقم حال الذكرى وسرها الكامن الذي جعلها تتسيد العقل في كثير من المواقف.
 
في تعريف الوطن، نجد أنه مكان إقامة المرء ومستقره، وينسب انتماؤه إلى وطنه سواء ولد فيه أم لا. وعلى الرغم من خلو الإنسان من مسؤولية الاختيار، فهو شاء أم أبى، محكوم بتهمة الانتماء، ومخير بين النفي أو الصمود في الحظيرة التي يكاد لا يجد فيها فرقاً بينه وبين أقرانه من الفصائل الأخرى، وهو نفسه قد وجد يديه مكبلتين بخطايا آبائه وذنوب أجداده، يحار كيف يجد السبيل إلى فك القيد والمضي مع الفيض. إن الإنسان بطبيعته متطلع نهم، شغوف بالرفاه ومنقاد مع المتعة، رسم أحلامه التي ما فارقته على جدران الكهوف التي استوطنها قبل اكتشافه الحرف، فما بالكم به وقد وجد قدميه غارقتين في الوحل لا يقوى على الإكعاب، ينظر إلى الحيوانات الأخرى من حوله، التي تعود التفوق عليها وقد ماثلته الآن في المعاش.
 
الموقف ما إن يتخطى حد المأساة، حتى يصبح شرنقة صفراء، تخرج منها فراشة سوداء منهكة، فتعيش مدّة قصيرة، ترقص خلالها كالمجنون في حضرة الفقيد، وتبعث في أنفس كل الشهود تلك السخرية المطلقة ثم تموت. هذا هو تعريف المهزلة التي يعيشها إنسان وجد نفسه في وطنه الذي غدا حظيرة بائسة، غاطساً في الوحل الذي تبرأ الطين منه، يلعقه حيوان يقتات على الفضلات، تخنقه روائح الروث التي لا تعرف الزوال، قد أنهكه الحك نتيجة لدغات فصائل الحشرات المريعة التي وجدته مرتعاً عذباً، فأصبح جلده لحماً ينزف بخجل، قطرات تجمدت نتيجة رفضها المطلق النزول على أرض مترملة. إن الموقف ذاته أكثر من هزلي بالنسبة لإنسان أدرك وجوده من خلال منطقه، قد قهقه ثم شعر بالسكين مثلث الرؤوس، يخترق صدره ويجلس على عتبة قلبه، وقد أحدث فيه نوعاً من الألم الغائر الممزوج بمشاعر تخطت السواد الحالك وتسببت بالحرقة في أعمق نقطة ممكنة في النفس.


هو الغريب في أرضه، الآبد بين نظرائه، الواقف على تراب اكتسب حمرته من دم يجري في شرايينه، هو صاحب الدمعات الواقفات على الجفون، المنتظرة شارة النزول على الخدود. هو الشجرة التي امتدت جذورها عميقاً، فنمت رغم العواصف الساحقة والمحن الحارقة ولامست أغصانها حد الغيوم، فصارت منارة تهتدي بها السفن التائهة في بحر العالم. إلا أن اللعنة الأزلية التي تركت كل البقاع، قد حلّت وحلّ معها الظلام الدامس الذي جعل الورق أصفر، الغصن يابساً والجذر ضنيناً. لم تنفع كل الآهات أو الدمعات، ولا حتى الصرخات المجلجلات في الذود عن المصير المشؤوم الذي نزل على الشجرة فتلاشت وصارت تراباً حملته معها الرياح العاتيات عبر البحار.
 
لم يعد في عمر هذا الإنسان من متسع ولا في حيله من شدة. وهذا ما قد وعاه فتنفس عميقاً حد اليقين، وضع دموعه تحت الحراسة المشددة في المنهل السحيق، قمع أوتار حنجرته مخافة الثوران، كظم هيامه بالوطن الأثير، أوصد الباب أمام كتيبة أفكاره المتأهبة للهجوم بعد حلول التعب، وخطا الخطوات المضنيات متذكراً حبوَه أيام كان طفلاً، وقف ونظراته تسبق استدارة رأسه، تأمل الحظيرة، حدق في السماء وهمهم، لقد بلغ المر من الحقيقة حين أيقن أن الوطن ما هو إلا وهم جميل، شعور يسكن السريرة ويلازمه كالقرينة.





الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم