الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

حوار الحضارات نعمة ونقمة

المصدر: "النهار"
من أجواء عيد الميلاد في بيروت (نبيل إسماعيل).
من أجواء عيد الميلاد في بيروت (نبيل إسماعيل).
A+ A-
دانيال سعادة
 
شهدت دول العالم على مدى التاريخ احتلالات عديدة، وحكمتها إمبراطوريات مختلفة، كما شهدت على مجازر وحروب وحكم أقسى وأسوأ السفّاحين لها، حاكمين متحكّمين بالسلطات والعروش، هدفهم الوحيد الحكم. لكن بغضّ النّظر عن تلك المساوئ، نتجت عنها جمالات فنيّة حضاريّة تراثيّة اختلفت مع اختلاف العصور، وصارت بصمة في تاريخ البشرية. فكيف نجحت هذه الأنظمة في ترك هذا الإرث الكبير من الحضارة؟
 
على مرّ العصور شهد الكثير من البلدان احتلالات ترجمت معظمها باحتلال الأقوى للأضعف، فشهدت الشعوب كيفيّة تعبّد الإمبراطور لعرشه، واختلطت هذه الشعوب وتخالطت الثقافات لتولّد حضارات جديدة منفتحة بعضها على بعض. مثال على ذلك لبنان والسلطنة العثمانية، حيث عاش لبنان لعقود تحت السيطرة العثمانية القاسية التي ارتكبت باللبنانيّين أبشع الجرائم والمجازر، ولا سيّما ما حدث مع مسيحيّي جبل لبنان حيث أبيد ربعهم تقريباً، وهاجر الربع، وصمد الربع الذي ننحدر منه اليوم بعد مئة سنة ونيّف.
 
ومع العلم بأنّ تلك الاحتلالات بشعة، فإنّه بعد زوالها تجلّى جمال التخالط الثقافي في مختلف أبعاده، حتّى باتت الكرة الأرضيّة لوحة فسيفساء تشعّ جمالاً من جوانبها كلّها. فكلّ حضارة أسهمت بخلق هذا التراث الذي خلد في عقول الشعوب. فالتخالط اللبناني ¬–التركي على سبيل المثال أثّر كثيراً في حضارتنا اللبنانيّة، وأورثنا الكثير من الحضارة التركيّة، على سبيل المثال هنالك عدّة كلمات نستخدمها في لغتنا العربيّة تعود أصولها إلى اللغة التركيّة. وكُتبت بوساطتها كبريات الكتب، إضافة إلى المخزون الثقافي الفينيقي – الآرامي العريق الذي وسم أجمل الكتب التي بقيت خالدة.
 
يكفي أن نقرأ في فكر جبران خليل جبران، أو ميخائيل نعيمة اللذين تركا بصمة أدبيّة خالدة في عقول وقلوب كلّ من يقرأ جمالاتهم الفنّيّة. إلى جانب الكتابات واللغة، تبادلت الحضارات، وولّدت انفتاحاً في عدّة مواضيع مثل الأكل والموائد، فأخذنا عادات شرب الشاي وأكل الشاورما التركيّة، وأصبح الأتراك يأكلون المأكولات اللبنانيّة ويتحدّثون ببعض الكلمات اللبنانيّة أيضاً. فتعدّدت التبادلات ولكن النتيجة واحدة: الجمال الثقافي الذي يبقى.
 
إضافة إلى ذلك كلّه، لا يمكن إغفال السلبيّات التي تركتها الاحتلالات المتتاليّة في صراع الحضارات. فبتنا اليوم في ساحة حضاريّة يستعر فيها هذا الصراع على وقع تنامي العقائد الدينيّة إلى حدّ تحوّل هذه العقائد إلى مذهبيّة في بعض البلدان. وهذا ما أدّى إلى تزايد الصراع الحضاري حتّى بات العالم اليوم على فوّهة بركان لم يعد يُعرَف متى وأين قد ينفجر. من هنا، فإنّ نجاح هذا التخالط الحضاري إنّما هو ناجم عن حبّ الإنسان لكلّ جديد، فضلاً عن شهوة الاستكشاف لديه التي حوّلته إلى باحثٍ دائم.
 
ففي النهاية المعادلة سهلة، لا يبقى أيّ طاغية أو ظالم في الحياة ولا في عقول الناس الذين يحاولون قتل ذكراهم، وإذا ذُكروا ترتبط أسماؤهم بالجرائم والتزييف دائماً. لكن في الحياة تبقى دائماً الأعمال الجميلة والفنّ والحضارة والتراث، وتبقى الأسماء التي حرصت على تطوير الإنسان. فالفنانون والكتّاب والرسّامون والنحّاتون اللبنانيّون هم من أبقوا هذا البلد صامداً نتيجة كلّ ما قدّموه للشعب وللوطن بوجه العصف الحضاري الذي يضرب منطقتنا. ولكن هل هذا الجمال الثقافي الحضاري الخالد كفيل بمحو الآلام والمآسي التي عانتها شعوبنا من طغاتها؟ وفي عصرنا هذا المليء بالطغاة والشرّ أيضاً، هل هذا الجمال قادر على أن يتطوّر ويتزايد في ظروف مريرة وأليمة تعانيها الشعوب جميعها وخاصّةً الشعب اللبناني؟
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم