"لأنّني أحبك"... تقنيّة عالية في السرد الخيالي التشويقي

يطلقُ الروائي الفرنسي، غيوم ميسو، في روايته "لأنني أحبك"، جماح الرغبة النرجسيّة الفردية التي تتوقُ للتحرّر من قبضة الخيال السردي إلى الخيال التشويقي المبطّن بالرموز والتحايل على الواقع، لتأتي "صدمة" النهاية عالية الجودة والتأثير على حواس المتلقي، مصرّاً أنّ الشرّ كلّه في الحياة يكمن في تفاصيل الأشياء، جازماً "أن مقاومة المجرى الحتمي للأشياء عبث".
يقع الطبيب مارك، بطل الرواية، في مستنقع الأحزان الدامسة، يغصّ في حواشدها من الأحداث الدامية عندما تختفي ابنته الوحيدة والصغيرة ليلى خلال تجوّلها مع مربيّتها في مركزٍ تجاريٍّ يقع في مدينة لوس أنجلس، فتغدو الدنيا بالنسبة له مثل قبض الريح العاتية، فتتفكّك مفاصل الحياة والعيش المشترك في قاموسه، ويهجر زوجته نيكول، ويختار حياة التشرّد في طرقات نيويورك ليقتبس محامد العزلة رغم مفاسدها، ويهيم شارداً في الأرض على غير هدى، حتّى تصل زوجته إلى اتّفاقٍ مع صديقه المقرّب الطبيب كونور صاحب كتاب (البقاء على قيد الحياة)، على إخضاعه لجلسة علاجٍ نفسيّ متطوّر تجمعه مع فتاتين اختارتا العيش مثله خارج إطار الحياة، بنبضٍ خافتٍ وحماسٍ باهت، حيث يوهمهم بأنّهم في طائرة استقلّوها بعد أن عثر مارك في الحلم على ابنته؛ الفتاة الأولى تدعى إيفي، كانت قد اختارت طريق الثأر عندما تغلغل الحقد في طيّات روحها بعد أن خدع الطبيب أمّها العليلة التي كان على وشك زراعة كبد جديد لها بأنّ نتيجة فحوصاتها أثبتت أنّها غير مؤهّلة للحصول عليه، طمعاً بمنحه لمريضة ثريّة عرضت عليه مبلغاً كبيراً من المال، فباع ضميره المهني، وماتت أمّها بسبب نزوة طمعه وفورة جشعه، فتقرّر إيفي السفر إليه بعد انتقاله إلى مدينة أخرى حتّى تقتله وتدخل السجن؛ أمّا الفتاة الثانية فتدعى أليسون، وهي فتاة فاحشة الثراء، ووحيدة والدها، رحلت أمّها وتركتها تتبهرج بثرائها، وتخنق أثمار شبابها في مهد الضياع والإدمان، وقد تبيّن في نهاية الرواية بأنّها قتلت ليلى، طفلة مارك ونيكول، عن طريق الخطأ، عندما كانت تقود سيارتها وهي ثملة، وقام والدها الثري بالتستّر على الأمر ودفن الطفلة في منطقة صحراويّة معزولة قبل أن يتسلّل الخبر إلى رجال الشرطة.
يستيقط الثلاثة من جلسة العلاج الطويلة التي تمهّد للحقيقة على أرض الواقع بعد أن عايشوا خيال العلم المنطوي على الهذيان والوهم، فيسامح مارك أليسون على ما اقترفته بحقّ ابنته ويعود لزوجته نيكول ويرزق منها بأطفال بعد فترة قصيرة من الزمن، وتشفى أليسون بدورها من الإدمان وتتابع حياتها بعد أن تلقّت درساً قاسياً وحاسماً في مسار حياتها جرّدها من أنانيتها الحمقاء، وتتخلّص إيفي من فكرة الثأر وتجنح للتسامح، ويساعدها الطبيب كونور في متابعة تحصيلها العلمي، مدركاً أثر الفقر والعوز في حياة طفلة صغيرة بعد أن تكبّدها هو نفسه عندما كان صغيراً واضطرّ إلى أن يرتكب جريمة قتل بحقّ متشرّدَين انتقم منهما بعد أن قاما بحرقه وكاد أن يلهث أنفاسه الأخيرة قبل إسعافه وتشوّه وجهه واستغرق الأمر سنواتٍ طويلة ليعود جلده طبيعيّاً، وأفلت من العقاب مقتنعاً بأنّه ارتكب في حقّهما ما استحقّاه، وتشبّ إيفي لتصبح بعد سنوات طبيبة ناجحة، وتقع في حبّ الطبيب كونور لتُختم قصّتهما بالزواج.
في رحم المحبّة الخصبة يجمع الروائي ميسو أبطال روايته، حاجباً ستر الكراهية والبغض، جامعاً بين الرغبات والأفكار المشتركة في جلسة العلاج النفسي بين أفرادها، غارساً أمل البقاء في نفوسهم بعد أن خلّعت نوافذها ريحُ المأساة المشتركة، في أحجيةٍ سيكولوجيّة عميقة الأثر، تثبتُ أنّ الإنسان وُلد من رحم التجارب الإنسانيّة الصعبة، معبّراً عن شفافية رأيه في قوله: "ليس ثمة جرح لا يمكن التخلص منه، إنني عميق الاقتناع بذلك، بوسع الناس أن يحولوا ندوبهم إلى قوة، وليس ذلك بالأمر السحري. يستغرق ذلك بعض الوقت وغالباً لا يشفون بالكامل. لا يختفى الألم بالكامل حقاً، إنّه يبقى جاثماً في أعماقنا إلا أنه يجعلنا نواصل الحياة ونواصل طريقنا".