إذاً هي الحرب..

هلع عالميّ من الحرب.. ولع بمتابعة أخبارها، ولمَ لا؟ فهي مؤثّرة على لقمة عيش الفقير حتّى في بلاد بعيدة. ماذا يحصل ولماذا؟ إلى أين ستصل بنا هذه الحرب؟ وكيف ستنتهي هي الأسئلة الأكثر شيوعاً في العالم اليوم؟
الحروب وكما هو معروف، جزء أساسيّ من عادات البشر عبر التاريخ، وهناك كتب ومجلّدات تروي قصصاً مروّعةً عمّا حصل لأمم وحضارات تمّ محو كلّ أثر لها على الإطلاق، واستمرّت الحياة.. وعلى حين غرة، وبثورة هائلة في كلّ المقاييس، استطاع الإنسان أن ينخر في حصون الزمن بثقة ويصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من علوم وتطوّر وتكنولوجيا ومعرفة، ولكن أيضاً من تواصل وترابط وعناق مذهل بين الحضارات والدول والأفراد.
الحرب اليوم بين روسيا الدولة الأكبر في العالم والغنيّة بالموارد الأوّلية وريثة الاتّحاد السوفياتيّ التي تمتلك ثاني أقوى جيش على مستوى العالم، وهي الدولة المعتدية، وأوكرانيا أكبر بلد في أوروبا، وصاحبة الأراضي الزراعيّة الخصبة، وجمال طبيعتها الخلّابة، ولكن هي أيضاً بين شعبين يعرفان بعضهما حقّ المعرفة، ويصعب على مواطني الدول الأخرى التمييز بين الشعبين للوهلة الأولى، لأنّهما متداخلان في كلّ شيء تقريباً.
بدأت الخلافات بين البلدين، روسيا يحكمها رجل واحد منذ عشرين عاماً، نجح في وقف انهيار روسيا كدولة، وأعاد ثقة مواطنيها فيها وفي أنفسهم، فأصبح الحاكم بأمره. استفاد الرئيس فلاديمير بوتن من فرص الحياة، فوصل إلى سدّة الحكم عن طريق علاقاته، واستطاعت ملامحه الروسيّة الناعمة أن تقنع الروس به، وترافقت فترة حكمه لحسن حظّه بطفرة اقتصاديّة عالميّة غير مسبوقة، نتيجة للنموّ الهائل في الكثير من الدول الصاعدة، ومنها الصين فزاد الطلب على المواد الأوّلية والنفط والغاز وهو ما راكم سيولة أدّت إلى تحسن دخل المواطن بشكل ملموس وسريع، وسياسيّاً قضى على ثورة الشيشانيين بدون رحمة فاقتنع الروس بأنّه زعيم يقود الأمّة في الاتّجاه الصحيح.
في هذه الفترة أخذت الأمور منحى آخر في أوكرانيا، فهي بلاد أصغر حجماً، ومدنها موزّعة بشكل منطقيّ جدّاً شمالاً وجنوباً كما غرباً وشرقاً يعلم شعبها بأنّ عليه العمل بقوّة ليصل إلى برّ الأمان، رغم فساد الكثيرين، وهكذا تبارزت الأحزاب واستطاعت أوكرانيا أن تعيش قصّتها منفردة بانتخاب رئيس جديد عند كلّ استحقاق، فأصبحت ديمقراطيّة متداخلة مع روسيا ثقافيّاً وشعبيّاً ودينيّاً تهدّد عرش بوتن، الذي قرّر أن يقبض على الحكم إلى الأبد.
طبعا بوتن أستغلّ كلّ شيء لصالحه، فبعد الشيشان دخل جورجيا وهدّد ساركوزي ونجح والنتيجة لا شيء سوى المزيد من الأغنياء الروس الذين يدعمون الرئيس، والمزيد من استيراد أوروبا لنفط وغاز روسيا، حتى جاءت فرصة سوريا وسماح أوباما الرئيس الضعيف لروسيا بدخول سوريا فهو كان في فترة انبهار بملالي إيران واستطاع بوتن تثبيت حكم بشّار في سوريا وتهجير ملايين السوريين إلى أوروبا مقابل عقود طويلة الأمدّ لقواعد بحريّة وجويّة في سوريا، وطوّرت ألمانيا مع روسيا خطوط إمدادات غاز في ظلّ قيادة ميركل المتواضعة لألمانيا، وبهذا يكون الرجل قد اعتاد دخول الحروب وتحقيق أهدافه، بأنّه يستطيع فعل الشيء نفسه في أوكرانيا وقلب نظام الحكم.
إذاً هناك حرب تدور على أراضي أوكرانيا، وروسيا دخلت بـ١٥٠ ألف جنديّ، وتوقّعاتهم كانت بأنّ المعركة ستُحسم بـ٧٢ ساعة، بوتن أعطى الأمر ولا أحد يستطيع أن يقول له "أوف" أو أيّ شيء آخر... هو القائد والشعب يتبع أو لا يتبع غير مهمّ، دخل الجنود بإرادة قائد وأغلبهم لا يعلم لماذا هم في أوكرانيا يقاتلون بدون إرادة وعزيمة فوقعت المجزرة وقتل نحو عشرة آلاف جنديّ بفترة قياسيّة على أيدي المقاومين الأوكران الذين تحرّكهم عقيدة الدفاع عن أرضهم بكلّ شرف. كلّ فرد معنيّ بهذه المقاومة التي أذهلت العالم بشراستها، فالرجال يودّعون نساءهم وأطفالهم على محطّات القطار ويعودون إلى جبهات القتال وكلّ هذا يحصل اليوم عام ٢٠٢٢، المدجّج بالهواتف الذكيّة والصور والفيديوهات مع بشر اليوم المعدّلين وراثيّاً وأخلاقيّاً عمّن سبقوهم من البشر بفعل التطوّرات الهائلة، فتفاعل كلّ العالم مع هذه الحرب، وأصبحت كما هو واقع فعليّاً الكرة الأرضية كقرية صغيرة أو بلد واحد، وهو ما دفع بالآلاف في الغرب إلى ترك عائلاتهم والتحاقهم بالمقاومة الأوكرانيّة، هذه الشعوب لن يقبل ذكاءها اليوم بأن يأتي قائد ويغزو بلد ويسيطر عليه. هذه الآلاف تحرّكت لوحدها دون تدخّل قادة بلادهم فأصبحوا هم القاطرة التي تجرّ حكّام بلدانها وراءها بعكس روسيا التي يجرّها بوتن إلى حيث لا تريد وهنا الفرق.
إذاً حرب حديثة ودمار جديد والكلّ يسأل إلى أين؟ أنا شخصيّاً مقتنع جدّاً بأنّ بوتن خسر حربه هذه المرّة، وبأنّه جر روسيا وراءه إلى مستنقع ضحل لا يعلم ماذا يخبئ لها ورغم أن شعب روسيا اعتاد العيش في المحن، إلّا أنّ هذه المرّة ستكون محنته مؤلمة جدّاً بكلّ المقاييس وسيدفعون ثمناً باهظاً جدّاً، وليس الدليل على الورطة الكبيرة سوى هبوط الروبل بشكل دراماتيكيّ وتعابير وجه بوتن المشحون وقبوله بمرتزقة تساعده في الحرب وهي لم تبدأ بعد كما يجب فما بالكم بعد شهر أو أكثر.
مخطئ جدّاً من يعتقد بأن روسيا ستكسب هذه الحرب ولأنّ بوتن لن يختم مسيرته بانهيار شبه تامّ لاقتصاد روسيا، فهو سيلملم أفكاره وسيعود إلى التفاوض كالأوكرانيين سيعودون إلى واقعهم الجغرافيّ وسيتنازلون عن الناتو لكن بشرف، بعد كشف كلّ الأقنعة وستعود دانيسك ولوغانسك لأوكرانيا مقابل التخلّي عن القرم وضمانات أمنية ومساعدات بمئات المليارات من الدولارات على أغلب الظنّ، لكن ما لن يعود يوماً هو أوروبا إلى استيراد نفط وغاز روسيا بعد حين، فميركل ذهبت تكتب مذكراتها وتركت مكانها لقادة لا يساومون.