العاهات الاجتماعية

زمنٌ ما كان لإنسان تخيّله حتى في الحلم، زمنٌ بات فيه كلّ شيءٍ ممكناً... نعم لقد أصبحنا في عصر حيث التواصل حدوده الفضاء، وحيث يعلم الشرق ما حلّ بالغرب قبل الغربيين. إنّه ما يسمّى بزمن الانترنت والتكنولوجيا. مع الوقت بدأت عبقريّة الإنسان بالظهور، هذه العبقريّة التي أفاضها الله علينا فميّزنا عن كلّ مخلوقات الأرض. ومع الوقت زرع الإنسان جهوده في المادة، فوصل إلى اكتشاف ماورائيّات هذا العالم. وعملت كل الأدمغة بكلّ طاقاتها مثابرةً، حتى توصلت الأرض إلى حالها اليوم. ولكن مع كلّ هذا التطور لا يزال الكثير من الأفراد والمجموعات يطوّرون أبحاثهم ودراساتهم سعيًا للمزيد من الاكتشافات، فقدرة الإنسان حدودها السّماء. إذ إنّ هذا الجيل يشهد على إبداع ما خطت أيدي العباقرة. فنرى من جهة الأوضاع الصحية، العلمية، والاجتماعية... التي تطوّرت، والتّواصل الذي صار ممكنًا من أي نقطة على كوكب الأرض، والدراسات المتقدّمة في الرّياضيات، الفيزياء وفي الكثير من المجالات. ومن جهة أخرى نرى الأسلحة التي تطوّرت ومشاهد الإجرام التي كثرت. إنّه زمن الفنّ والعبقريّة من جهة، وزمن العاهات والمفاسد من جهة أخرى.
إنّ النعمة التي أضفاها الله على الإنسان لا تقدر بثمن، إنّها نعمة العقل، نعمة التفكير، المشاهير... ولكن البشرية حوّلت هذه النعمة إلى شرّ يسكن قلب كل فرد في العالم. فالشرّ صار طبعاً في الإنسان لا يمكن العيش بدونه. وهذا يظهر في العديد من الأحداث في زمننا، فصحيح أن التواصل صار ممكنًا من أي نقطة في العالم، ولكن استخدم هذا التواصل كي يؤذي الناس بعضهم البعض، وكي يشوّهوا صورة أعدائهم، ويسكبوا كل ما خلق فيهم من شر وظلم على صفحاتهم. وقد صار اهتمام الناس هو أن يظهروا بصورة جميلة أمام العالم في وسائل التواصل الاجتماعي. فنرى في الصفحات كل الناس فرحين يتباهون في أكلهم وملابسهم... وكأنّ الدنيا تنكّرت بزيّ جنّة حيث يسود الحب والسلام والعدل... ولكنّ الحقيقة تختلف، الحقيقة المرّة التي يحاول الناس أنّ يتجنّبوها، هاربين من سوداويّة هذا العالم وضرباته الموجعة. لأنّه في الحقيقة الحياة رسمت في طريق كل منّا صعوبات وهموم ثقيلة. فصارت حياة الإنسان مجرّد ذكريات تائهة بين نبض الماضي والحاضر... وصار الموت كلحن عذب يريح النفس ويخلصها من عبوديّتها.
إنّ التطور لم يأتِ إلى عالمنا فارغ اليدين، بل أحضر معه كل الوسائل التي تساعد الإنسان في شرّه. إذ باتت حياة الإنسان كالورقة على الشجرة بلا قيمة، تذهب ليأتي غيرها... ففي لبنان مثلًا، ما كان مصير أكثر من مئتي شخص بسبب إهمال الدّولة لستة سنين تاركةً في مرفئها وفي عاصمتها مواد متفجرة. قد حاول الناس الهرب من قذارة الوضع في بلدهم، فاحتموا في بيوتهم ولكن الموت لحقهم إلى بيتهم، ذلالة الحكام أودت بدمار العاصمة ومقتل أكثر من مئتي لبناني. وهل حوسب المجرمون؟ هل تجرأ أحد على قول اسم المجرم؟ هل ثار الشعب ضدّ حكامهم؟ بل ظلّت كراسي الحكم منتصبة على دم الشّهداء، وحدها دمعة الأمّ روت بيروت من حرقة قلبها، وحدها صرخة الآخ ملأت شوارع بيروت المدمّرة نحيبًا... ووحدها الشمس غادرت في تلك اللّيلة وراء البحر تاركةً صلواتها وأسفها على الشهداء الّذين سفك دمهم هدرًا... ومنذ تلك اللّيلة صارت كلمة "عدالة" كبيرة على شعبٍ ذاق كلّ معاني الذّل والقهر ولكنّه ظلّ ساكتًا... عن أي عدالة نتحدث في بلد أكله سوس الفساد، وجلس على عرشه سارقون مجرمون ومكرمون من شعبهم المذلول.
لربما التطور هو حاجة الإنسانية، ويجب وضع كل القوى كي يظلّ العالم مسرحاً للإبداع والفنّ، ولكنّ الأهم من هذا التطور، هو تطوير ذهنية الشعب وقمع الجهل من المجتمعات، فتسود الألفة والسلام...