لا أظن أن هناك من أحب ندوبه وتصالح مع خيباته مثلما
فعلت، من كل قلبي أحبها، ولست أدري ما السبب، لا أذكر
أنها مرت بذهني ذات يوم وفررت منها هاربة، بل على العكس، فكلما داهمتني
الذكرى ووجدت نفسي أقف أمامها وجهاً لوجه، لا يسعني
آنذاك سوى أن أفتح
ذراعيّ على اتساعهما لأركض نحوها بأقصى سرعتي.
لا أؤمن بذلك المبدأ الذي يروِّج له البعض بأن علينا تمزيق
دفاتر الماضي وصفحاته دون أن نلتفت إليها أبداً، حتى
نستطيع المُضيّ قدماً، فمَن سنكون نحن وكيف يصبح حاضرنا إن تنصَّلنا من
الماضي؟ وحتى إن فعلنا ومزقنا تلك الصفحات التي يحتفظ بها العقل، فماذا نفعل في ما يختزنه القلب؟ فالعقل قد يتمكن من النسيان أحياناً، ولكن القلب لا ينسى أبداً.
لا أظن أن أحداً منا يمكنه نسيان خفقان قلبه الأول تجاه
الحبيب ولا خذلانه مع أول فراق، لحظات الانكسار وما تبعها من لحظات الانتصار، فكيف يمكن لقلبٍ أن ينسى حين تملَّك اليأس منه بعد طول
انتظار، أو حين تراقص فرحاً لنجاحٍ لم يزِده وَهجاً سوى كثرة الإخفاق؟ وهل عساه ينسى شعور الذنب الذي اعتصره إثر أول كذبة أو عنف
خفقاته في كل مرة تجرَّع بها مرارة الخوف؟ لا أظنه يفعل، لذا عزمت ذات يوم على رفع الراية البيضاء استسلاماً لذاكرة بِتُ أعلم جيداً
أنها لن تفارقني أبداً، ذلك الاستسلام الذي سُرعان ما تحوَّل إلى تقبُّل واعتياد، ومن ثَمَّ إلى حبٍ كبير.
نعم، أحببت خيباتي رغم كل شيء، رغم الخذلان والإحباط،
ورغم الألم وكسرة القلب، ربما لأنني سعدت ببعضها ذات
يوم، حتى وإن كانت سعادة زائفة أو مؤقتة، يكفيني أنني تذوقت شَهْدَها حتى ولو للحظات، لا يهم، وربما لأني صرت مقتنعة بأنها جزء لا يتجزأ مني، ولولاها ماكنت أنا، لذا أصبحت أتحدث عنها بصوتٍ
واثقٍ وعينين مفتوحتين حتى أقصى مداهما، وكأن تلك
الخيبات التي حسبتها نالت مني فيما مضى، قد أصبحت فجأة مصدر قوَّتي، ربما لأنني تقبَّلتها لم تعُد تُرهِبني، وكأنها أسد أحسَنْت ترويضه، وربما لأنني
أصبحت أدرك جيداً أن نكرانها أو التنصُّل منها لن يجدي نفعاً، فلو ظللت عُمراً
بأكمله أنكر أثرها المطبوع على قلبي، لن ينفي هذا أنني مررت بها، وأنها قد حدثت بالفعل، لذا آثرت أن أدع ما حدث لما حدث، عازمة
على المُضِيّ قدماً، ولكن مع احتفاظي بحبي وامتناني لخيباتي.