الدّواعش وعقيدة اقتحام السّجون

شهدت الأيام الماضية معارك ضارية بين "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد)، ومقاتلين من تنظيم "داعش"، بهدف تهريب عناصره المحتجزين في سجن غويران في مدينة الحكسة في الشمال السوري، والذين يقدر عددهم بأكثر من 5000 تكفيري.

عملية اقتحام سجن غويران شهدت احتجاز مقاتلي التنظيم الداعشي عدداً من عناصر "قوات سوريا الديموقراطية"، وتحويلهم دروعاً بشرية في ظل تبادل إطلاق النيران، أسفر عن مقتل أكثر من 180 داعشياً (بينهم 150 من منفذي الهجوم)، ونحو 120 جندياً من قوات "قسد"، وفقاً لتقارير صادرة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان.

تحركات تنظيم "داعش" في تهريب مقاتليه تنم عن تخطيط وتنفيذ دقيقين لعملية الهجوم على السجن، ما يشير إلى قوة التنظيم وخلاياه الكامنة في المناطق الصحراوية على الحدود السورية العراقية، وقدرته على المواجهة.

اعتماد تنظيم "داعش" فكرة اقتحام السجون يأتي من قبيل عقيدة راسخة تحت مسميات مختلفة، منها "استراتيجية هدم الأسوار"، أو "فك العاني" (تحرير الأسير)، وتدور جميعها حول طرق تهريب العناصر التكفيرية من داخل السجون، وفقاً لمرجعية شرعية صيغت منذ زمن بعيد على أيدي عدد من رموز تيارات السلفية الجهادية، والجماعة الإسلامية في مصر، وتنظيمات الجهاد، وتنظيم "القاعدة"، انتهاءً بتنظيم "داعش".
وفي آب (أغسطس) 2020، قام تنظيم "ولاية خراسان" التابع للتنظيم الداعشي، بتنفيذ هجوم على السجن المركزي في مدينة جلال أباد في ولاية ننجرهار شرق أفغانستان، أدّى إلى مقتل قرابة 30 عنصراً من حراس السجن، وإصابة 50 عنصراً آخرين، باستخدام 30 عنصراً انغماسياً، وسيارة مفخخة بطن من المتفجرات، لنسف البوابة الأماميّة للسجن المحصّن وفقاً للإعلام الرسمي، وعلى إثرها تم تهريب أكثر من 300 تكفيري ممّن اعتقِلوا أواخر عام 2019.

يقبع في نطاق السجون السورية التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديموقراطية"، نحو 19 ألف داعشي، موزعين على سجون مناطق الحسكة ودير الزور والرقة، بينما يقبع في سجون المدن العراقية ما يزيد على 12 ألف داعشي، موزعين بين بغداد ونينوى وديالى وصلاح الدين، فضلاً عن المخيمات الممتلئة بعائلاتهم.

منذ سقوط "داعش" في آذار (مارس) 2019، تحوّل مخيم "الهول"، في محافظة الحكسة على الحدود السورية العراقية، بؤرة ساخنة ومرتكزاً للفكر التكفيري عن طريق نساء "داعش" المؤدلجات فكرياً، إذ يضم نحو 74 ألفاً من عوائل التنظيم عقب سقوط مناطق ارتكازاته الجغرافية ومقتل الكثير من قياداته الفاعلة والمؤثرة على يد قوات التحالف الدولي.

وتتمثل خطورة هذه المخيمات في كونها بمثابة "قنبلة موقوتة" في العمق السوري، نتيجة تحوّلها "ولايات داعشية" مصغرة، خاضعة تنظيمياً لرجال البغدادي، وممتلئة بنماذج نسائية تعمل على نشر الانحرافات الفقهية والشرعية بين قاطني المخيم، في ظل إرجاء وضعهن ضمن برامج تأهيلية على المستوى الفكري والسلوكي والمجتمعي، للتخلص من رواسب المنهجهية الداعشية في إطار المراجعة الفكرية.

الذين راهنوا على على نهاية التنظيم لم تكن تقديراتهم سليمة، إذ ثمة فروق جوهرية بين سقوط دولة "داعش" وتفككها في آذار (مارس) 2019، وخساراتها للجغرافية السياسية التي كانت تتمركز فيها، وبين انتهاء قصة الدواعش تماماً، في ظل بقاء الفكرة الأيديولوجية وتمددها، واستمرار وجود الخلايا الكامنة المتمركزة في الدروب الجبلية على الحدود السورية العراقية. فوفقاً لتقرير أممي صادر في شباط (فبراير) 2021، أشار إلى أن 10 آلاف مقاتل داعشي، تمكنوا من الفرار بعد هزائم التنظيم، واختبأوا في عمق المنطقة الحدوية بين سوريا والعراق.

في الغالب، لن يتمكن التنظيم الداعشي من إعادة تمركزه جغرافياً في سوريا والعراق تحديداً، لأسباب كثيرة ومتعددة، لكن عمليات الهجوم على السجون واقتحامها، تمثل مؤشراً خطيراً الى حالة الاستفاقة على مختلف المستويات في تنفيذ الهجمات المسلحة، لا سيما أن التنظيم يعتمد على استراتيجية "حروب العصابات"، و"الجهاد المنخفض التكاليف"، ومحاولة استنزاف خصومه عن طريق ذئابه المنفردة، وإعادة بلورة الصورة الذهنية التي توحي بقوته وقدرة نفوذه على الاستمرار والمواجهة، وفقاً لما يُعرف بـ"البروباغندا الإعلامية".

كتابة السطور الأخيرة في رواية تنظيم "داعش" وفصائله تحتاج إلى المزيد من الخطوات والتدابير التنفيذية على أرض الواقع، مع ضرورة إعادة صوغ استراتيجيات الأمن القومي العربي وبنائها فكرياً وعسكرياً وأمنياً، وصناعة لوبي ضاغط بقوة لكسر تغلغل التنظيم التكفيري، ومحاصرة مخاطره، وقف المد الفكري للمعتقدات الداعشية في عمق المنطقة العربية.

تحركات "داعش" الأخيرة، وتمكنه من التخطيط للهجوم على المنشآت العسكرية في سوريا، تنذر بخطورة التنظيم وقدرته على التحرك، واختراقه الدوائر الأمنية في سوريا والعراق، فضلاً عن الأفرع المنتشرة في بعض الدول الآسيوية والأفريقية، وروافده في العمق الأوروبي، المنحصرة بين "خلايا التماسيح"، وخلايا "الذائب المنفردة".

عقيدة "داعش" في مداهمة السجون وتهريب أتباعه، شُرعنت على أيدي الكثير من المرجعيات التكفيرية، لعل أشهرهم أبو جندل الأزدي، أو فارس بن أحمد آل شويل الزهراني، المنظّر الشرعي لتنظيم "القاعدة"، والذي نُفذ فيه حكم الإعدام في شباط 2016، في المملكة العربية السعودية.

أصدر فارس آل شويل العديد من الأبحاث والدراسات الداعمة لتنظيم "القاعدة" ومنحها الغطاء الفقهي، منها على سبيل المثال "الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث"، وكتاب "تحريض المجاهدين الأبطال على إحياء سنّة الاغتيال"، وكتاب "وجوب استنقاذ المستضعفين من سجون الطواغيت والمرتدين"، ويعتبر الأخير المشرعن الفقهي للكثير من المحاولات التي استهدفت السجون.

استعان فارس آل شويل في دراسته الشرعية عن "اقتحام السجون" بمجموعة من الكتب التي تحدثت عن واقع السجون في أزمنة مختلفة، وفي ظل أنظمة سياسية متعددة، بهدف تأصيل الفكرة ومنحها غطاءً دينياً، منها على سبيل المثال، كتاب "البوابة السوداء"، للقيادي الإخواني أحمد رائف، و"الكتاب الأسود" لأيمن الظواهري، زعيم تنظيم "القاعدة"، وكتاب هبة الدباغ "تسع سنوات في سجون الأسد"، وكتاب "شاهد ومشهود"، للأردني محمد سليم حماد.

الخطاب الأيديولوجي للتنظيم الداعشي يرتكز مباشرةً على قضية تحرير مقاتليه من السجون، في نوع من التحدي والمواجهة الصريحة للقوات النظامية، لذلك نجد أن أبا بكر البغدادي، زعيم تنظيم "داعش"، نشر تسجيلاً صوتياً، قبل مقتله في تشرين الأول ( أكتوبر) 2019، دعا فيه إلى "إنقاذ" مقاتلي التنظيم وعائلاتهم المحتجزين في السجون والمخيمات، متوعداً بـ"الثأر" لهم، كما تحدث العدد 246 من جريدة "النبأ" الداعشية، باستفاضة في مقالين منفصلين عن مجريات تهريب سجناء سجن جلال أباد، بينما والى منهجية التنظيم في عمليات "هدم الأسوار"، وطرق تهريب مقاتليه وعناصره من داخل جدران السجون.

عقيدة "اقتحام السجون"، ممتدّة منذ بدء تأسيس أبو مصعب الزرقاوي جماعته في العراق، تحت مسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، حيث كانت العملية الأولى بقيادة الأردني عمر يوسف جمعة، المكنّى بـ"أبو أنس الشامي"،خلال محاولته السيطرة على "سجن أبو غريب" وتهريب عدد من التكفيرين في أيلول (سبتمبر) 2004، مروراً بنجاح المحاولة الثانية عام 2013، إذ استطاع التنظيم اقتحام "سجن أبو غريب"، و"سجن التاجي"، وتهريب نحو 600 تكفيري، (كانوا النواة الأساسية التي شكلت الطبقة الحاكمة لتنظيم "داعش" في ما بعد)، مستعيناً بعناصر انتحارية وصواريخ و12 سيارة ملغومة، ما أدى إلى مقتل 120 من حراس السجن.

وفي أيار (مايو) 2011، نفذ نتظيم "داعش" عملية هجوم مكثف بالأسلحة الثقيلة على سجن القصور الرئاسية في البصرة جنوب العراق، استمر لمد 6 ساعات متصلة، لتهريب 250 من القيادات القاعدية التكفيرية، تمكنت خلالها قوات الأمن العراقية، من قتل 11 قيادياً من تنظيم "القاعدة" البارزين، بينهم حذيفة البطاوي المعروف بـ"والي بغداد"، المخطط الفعلي للهجوم، بعد سيطرتهم على أسلحة قوات الأمن داخل السجن.

وفي نيسان (أبريل) 2011، حاول عدد من قيادات تنظيم "القاعدة" الفرار من داخل سجن "تسفيرات الرصافة" في بغداد، من خلال حفر نفق بطول 52 متراً، لكن قوات السجن تمكنت من ضبطهم قبل محاولة الهروب، وسبقها في كانون الثاني (يناير) 2011، تنفيذ عملية هروب لعدد كبير من قيادات التنظيم من سجن البصرة، لم تتمكن التحقيقات الأمنية من كشف ملابساتها.

وقبل ذلك تمكن المسؤول العسكري في تنظيم "القاعدة"، علي عمار الرقيعي، المُكنى بـ"أبو الليث الليبي"، من تنفيذ عملية هروب من سجن "الرويس" في جدة، بصحبة اثنين من قيادات التنظيم عام 1998، بعدما ألقت السلطات السعودية القبض عليهم لتورطهم في تفجيرات الرياض عام 1995.