4 آب يُفجّر السلاح ويُمزّق العتمة

غسان صليبي
 
في بلدي لبنان، عندما تقول السلاح تقصد "حزب الله"، وعندما تقول العتمة تقصد "التيار الوطني الحر".
يختلف اللبنانيون على الكثير من الامور، لكن لا شك عندهم أن سلاح "حزب الله" هو "السلاح" ولا يجاريه لا سلاح الجيش الثقيل ولا سلاح المواطنين الخفيف، كما ان مسؤولية "التيار الوطني الحر" عن انقطاع الكهرباء والعتمة تفوق مسؤولية أي طرف آخر.
بين السلاح والعتمة تحالف اعتقدنا بداية انه مصلحي وانتهازي:
"حزب الله" يهيمن على الواقع فيما "التيار الوطني الحر" يستولي على المواقع، من رئاسة الجمهورية إلى ما استطاعت ان تطاله أيادي باسيل واتباعه.
تبين مع الوقت أن التحالف مقدس، باركه مار مخايل وأُقحِم فيه يسوع والحسين. ويبدو أن الآخرين تنبهوا لقدسية التحالف فانضموا اليه، "القوات" عبر "اعلان معراب" و"المستقبل" عبر "التسوية".
لا يبدو هذا التحالف المقدس بين السلاح والعتمة ذا خصوصية لبنانية، فهو يحكم سوريا والعراق وغيرها من البلدان. وكأن السلاح يحتاج دائما إلى العتمة ليستمر في الحكم.
يشتكي البعض في لبنان من ان السلاح يحكمنا، ويردّ البعض الآخر بأن السلاح يحمينا، لكن المقولتين تعنيان شيئا واحدا، وهو ان مصيرنا يحدده السلاح.
هدف السلاح الاسمى، اي سلاح، وهذا في صلب وظيفته وسبب وجوده، أن يقتل خصمه فيغمض الخصم عينيه الى الابد، ويعيش في العتمة الدائمة. من هنا ربما هذه العلاقة الحميمية، الرمزية والوجودية في آن واحد، بين السلاح والعتمة.
لذلك يفضل السلاح اللون الاسود، فهو اللون الذي يؤهل عينيك لتقبل العتمة، التي تقدم خدمات جمة للسلاح، فهي تساعده على الحكم بسلاسة، ودون الحاجة الدائمة الى اشهار جبروته. إذ ان العتمة تحرم الناس من رؤية الواقع، من التواصل، من الحداثة، من الاستمتاع بالألوان والجمال. كما ان العتمة تخفي الحزن والغضب في عيون المواطنين، وتطمس تفاصيل الفقر والانهيار.
اكثر من ذلك، العتمة تدرّبنا على العيش في جهنم التي وعدنا بها رئيس الجمهورية، وهو قد وفى بوعده. الا تشبه جهنم التي تشتعل فيها النار، مشهدا اسود عليه مشحات برتقالية؟
 
سبق وكتبت أن السلاح لا يقتل خصمه فقط بل صاحبه أيضا، إذ انه يحل محله. وعندما ينتصر المسلح في الحروب أو في المعارك الصغيرة، يعرف في أعماقه ان الذي انتصر هو السلاح، لذلك تراه عاجزا عن الاستمرار في الحكم أوقات السلم دون التلويح باستخدام السلاح ودون العتمة.
في العتمة يمكنك أن تُدخل نيترات الامونيوم وتُخرجها دون أن يراك احد، وفي العتمة يمكن للمنظومة المتواطئة معك، مدنيين او عسكريين، خائفين أو مستفيدين، أن تدّعي أنها لم تعرف ولم ترَ.
وإذا ما رآك احدهم وانت تُدخل النيترات أو تُخرجها، فيمكنك أن تمارس التعتيم، أو التخويف إذا لم يعد ينفع التعتيم. وانت تفترض أن من يخاف سيغمض عينيه، وفي العتمة لا يعود يرى فيسأل.
 
لكن أهالي ضحايا انفجار المرفأ، والمواطنين المنتفضين، والقاضي بيطار، ما عادوا يخافون. فكما انه عندما يحكم السلاح تسود العتمة، كذلك عندما ينفجر السلاح نفسه، تزول العتمة. فالذي انفجر في المرفأ هو السلاح الذي شاء الاختباء عن عيون المواطنين. انفجر الحق غير الشرعي في إخفاء السلاح عن رقابة الدولة. انفجر حق السلاح في ان يحكم بدون موافقة المواطنين.
منذ نحو الاسبوعين نشرتُ في "النهار" مقالا حول علاقة انفجار ٤ آب بانتفاضة ١٧ تشرين ( "سنة بعد ٤ آب: الأهالي والانتفاضة من الصدمة إلى الاصطدام مع السلطة؟").
ففي انفجار المرفأ ضُبِطَت كامل المنظومة بالجرم المشهود وكُشِفَ التواطؤ بين الجميع: من ادخل النيترات، ومن وافق على ادخاله، ومن استخدمه، ومن سكت عنه خوفا أو طمعا بتبادل الخدمات التي يوفرها المرفأ.
الانقسام داخل الانتفاضة حول مسؤولية سلاح "حزب الله" او عدم مسؤوليته عن الأزمة العامة في البلاد، لم يعد يجد له مبررا في قضية انفجار المرفأ، حيث التعاون واضح بين أصحاب السلاح وأصحاب المواقع الدستورية، السياسية والأمنية والإدارية.
تقاطع المسؤوليات الأمنية والسياسية والادارية في انفجار المرفأ، أشار إلى وجود "نظام" متماسك، ليس بالضرورة هذا "النظام النظري" الذي تتكلم عنه الانتفاضة، بل هذا "النظام المتحقق" على أرض الواقع بفعل الممارسة، والذي يشكل السلاح جزءا منه.
مع وجود شكوك جدية حول تورط النظام السوري في إدخال النيترات واستخدامه لقتل شعبه بواسطة البراميل المتفجرة، تذكّرنا "النظام الأمني المشترك اللبناني السوري"، الذي كما يبدو، لا يزال يعمل بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، وهو قد أبى الا أن يتعانق الدم السوري مع الدم اللبناني، جاعلا الشعبين، ليس شعبا واحدا في دولتين، كما كان يقول حافظ الاسد، بل ضحية واحدة في نظام أمني مشترك.
 
لم اقتنع بعد، كما يريدنا أن نقتنع حلفاؤها واعداؤها، أن إسرائيل غير متورطة في انفجار المرفأ. فشهود العيان الذين سمعوا صوت طائرات وإطلاق صواريخ، وتوقيت الانفجار قبيل افتتاح مرفأ حيفا، إضافة الى معطيات أخرى، تثير الشكوك الجدية. وإذا صحت الشكوك، اكتمل المشهد: الجميع اشترك في قتل الشعب اللبناني وتدمير عاصمته، المنظومة الحاكمة والعدو والشقيق. بذلك تكون كل حجج الاقتتال بين اللبنانيين، الداخلي منها والخارجي، التي يروج لها الزعماء، قد سقطت.
انفجار ٤ آب مزّق العتمة فطلع الضوء. أهالي الضحايا يعرفون، والمصابون يعرفون، والذين دُمرت منازلهم ومؤسساتهم يعرفون، ومعظم الشعب اللبناني يعرف، وفي طليعتهم القاضي بيطار. المنظومة كلها متورطة، وقد جاء ميقاتي ليترأس الحكومة من أجل حماية المنظومة، هو الذي كان رئيسا لها عندما أُدخلت نيترات الامونيوم سنة ٢٠١٣. اكتمل الجمع وأصبح إسقاط الحصانات عن الجميع مرادفا لإسقاط المنظومة. هكذا تلتقي ١٧ تشرين بـ ٤ آب وتستمر من خلالها بدفع جديد وبوضوح اكبر، بعد انفجار السلاح وزوال العتمة. لكن يجب الحذر من خطأين استراتيجيين. الأول اعتبار ٤ آب محطة في مسار ١٧ تشرين، التي تبقي، في هذه الحال، شعاراتها وتناقضاتها. في حين أن الواقع الذي انتفضت عليه ١٧ تشرين تغيّر كليا، اقتصاديا ومعيشيا وسياسيا، وبات من الضروري تعديل الرؤية وأسلوب العمل، وخاصة بعد ٤ آب. فالطريق لم يعد إسقاط السلطة بالمطلق وبدون تحديد الوسائل، أو بتعددها بشكل غير هادف. بل أصبح الطريق يمر حكما بالمسار القضائي الذي يجب تحصينه وحمايته. اما الخطأ الثاني الاستراتيجي الذي يجب تفاديه، أخلاقيا وسياسيا، فهو استخدام ٤ آب كوسيلة وليس كهدف، كوسيلة تعبوية في خدمة أغراض انتخابية.
 
لطالما جرى الربط بين وجود لبنان وبقائه والدور الذي يلعبه بموافقة إقليمية ودولية. "لنحقق العدالة، لنسترجع البلد"، شعارٌ رفع لمناسبة ذكرى ٤ آب التي تحل علينا بعد ايام قليلة. للمرة الأولى ربما، ينظر شعبنا إلى بلاده نظرة داخلية، ذاتية، لا علاقة لها بدور يريده لها الآخرون. نظرة قائمة على اعتبار العدالة، بين أفراد الشعب وبينه وبين حكامه، شرطا اول لإستعادة البلاد. يُقال "العدل اساس الملك". يبدو أن العدالة أصبحت ملازمة لقدرة لبنان على البقاء على قيد الحياة، هو الذي قام على اللاعدالة بين الطبقات وبين الطوائف وبين الحكام والمواطنين.