القضية الفلسطينية تستحق أسئلة أكثر أهمّية
28-05-2021 | 17:22
المصدر: "النهار"
غسان صليبي
لا أجد ربحاً في الحروب، فكلّها بالنسبة لي خسارة، على مستوى القيم الإنسانية والسياسية، وعلى مستوى التكلفة البشرية والإقتصادية.
لا أعوّل على التقييمات بحسب النتيجة، وإلا كان الموتُ معيارَ تقييم الحياة. بل أفضّل النظر في آنٍ واحدٍ إلى المسار الذي أدّى إلى النتيجة وإلى ما سيتبع هذه النتيجة، على المستوى الإنساني والسياسي والاقتصادي والوطني.
ولأنّ فلسطين هي القضية وليست "حماس"، لن أدقّق في المعايير المستخدمة، للقول أنّ "حماس" انتصرت أو هُزمت في معركتها الأخيرة مع إسرائيل، خصوصاً أنّ هذه المعركة لم تهدف مباشرة إلى احتلال أرض، أو تحريرها، بل اقتصرت على نوع من القصف العشوائي الهجومي والدفاعي من الطرفين.
لن ألجأ، على أهميتها بالنسبة لي، إلى الحسابات الدقيقة حول عدد القتلى والجرحى من الطرفين، أو حول عدد المساكن والممتلكات المهدّمة، أو حول الكلفة الإقتصادية للحرب في الجانبين، ولن أقارن بين عدد السكان الذين كان مطلوباً حمايتهم من الترحيل في حيّ الشيخ جرّاح في القدس، وعدد المقيمين في غزة الذين فقدوا منازلهم، وما إذا كانت مقارنة الأعداد جائزة بين عاصمة تاريخية وقطاع سكني. ولن أتساءل كيف أنّ الحرب توقّفت من دون اتّفاق خطّي معلن تلتزم فيه إسرائيل عدم ترحيل المقدسيين، وهو ما كانت تطالب به "حماس" كشرط لوقف إطلاق النار. ولن أستغرب أنّ إسرائيل باشرت بعد الحرب حملة اعتقالاتٍ للذين شاركوا في الانتفاضة، في القدس والضفة وأراضي ٤٨، ولن أتساءل بالتالي عن صحة مقولة أنّ الحرب الأخيرة ربطت بين مصير القدس وغزة.
لن أقيّم الأهمية الإستراتيجية لتعاظم قدرة "حماس" الصاروخيّة ووصول صواريخها إلى تل أبيب، وعجز القبّة الحديدية الإسرائيلية عن التصدي الكامل لها. لن أحاول أن أقدّر ماذا كان يمكن أن يكون عليه الوضع لو تُركت الانتفاضة الشعبية السلمية تتطور في القدس والضفة وأراضي ٤٨، من دون تدخل صواريخ "حماس". لن أحلّل خلفيات قول قوى سياسية إسرائيلية إنّ إسرائيل خسرت في هذه الحرب، وما إذا كانت دوافع هذا القول موضوعية أو ذاتية وذات علاقة بالصراع السياسي الداخلي في إسرائيل. لن أقوم ببحث حول مواقف الفلسطينيين بعد الحرب، وخاصّة في أوساط الذين تضرّروا مباشرةً، لأميّز بين ما يقال في الإعلام على لسان بعض القوى الفلسطينية الفاعلة، من أنّ الفرحة تعمّ فلسطين، وما تقوله الأمم المتحدة من أنّ اليأس والإحباط يسودان في غزة، وأنّ الأولوية هي في توفير الدعم النفسي الاجتماعي. لن أقارن بين ما صرّح به أحد الشبان للإعلام من أنّه يشعر "بنشوة الانتصار"، وما صرّحت به سيدة شابة عندما سُئِلت عن الرسالة التي تريد إيصالها إلى الخارج قائلة: "بدناش تعملولنا مسيرات بدون ما تفيدونا، بدنا حل، بدنا أفعال، بدنا هدنة. دمنا انحرق، شعورنا من جوا ما بيتوصفش، أي كلمات بتوفيش. تعبنا، ايش نعمل اكثر من هيك؟ اجمعونا في مكان واحد ونزلوا علينا الصواريخ، كلنا نستشهد مرة واحدة. أما هيدا اللي تعملولنا ياه، حرام عليكم. الحرب النفسية اللي فينا لو العمر كلو بدنا نتعالج ما منتعالج. الله هوي اللي مصبرني".
لن اتساءل إذا كانت فلسطين هي التي انتصرت أم "حماس" هي التي استفادت من الحرب أم إيران هي التي تمددت بنفوذها، بعد أن مدّت "حماس" بالمال والسلاح، كما صرّح رئيس المكتب السياسي للحركة اسماعيل هنيّة، عندما شكرها علانية بعد الحرب.
لا لن أقوم بهذه المقارنات، ولن أجري هذه الحسابات، ولن أطرح هذه التساؤلات، بهدف معرفة إذا كانت "حماس" انتصرت أم لا. فما يهمني ويشغل عقلي وقلبي أمران، أعتبرهما لبّ القضية الفلسطينيّة: الأول، معرفة إذا كانت حقوق الفلسطينيين ستتحسن في غزة وفي الضفة. فواقع الحقوق في غزة، أعرفه بالتفصيل من أصدقائي الذين يعيشون هناك، والمنتمين إلى الفصائل الفلسطينية. واقع مفاده أنّ "حماس" لا تتصرف كسلطة عامة تمثل جميع الفلسطينيين، بل بفئوية صارخة مع باقي الفلسطينيين في القطاع ومن جميع الفصائل الأخرى أو من خارجها. وهي لا تعترف بالحقوق النقابية ولا بحقوق النساء ولا بحقّ المسلم في معايدة المسيحي في أعياده.
أعرف كذلك الواقع في الضفة، من أصدقائي هناك الموزعين أيضاً على الفصائل جميعها. لا شك أنّ في الضفة هامشاً أوسع لممارسة الحقوق والحريات من قبل الشعب الفلسطيني، لكن التمييز قائم أيضاً بين الفلسطينيين لصالح حركة "فتح" التي تمسك بمفاصل السلطة. كما أنّ الفساد مستشرٍ في غزة وفي الضفة، وهو يفسد في ما يفسد، علاقات التضامن والأخوّة بين الفصائل وبين الناس.
أمّا الأمر الثاني الذي تشكّل الإجابة عنه بالنسبة لي، المعيار الآخر لتقييم هذه الحرب، فهو إلى أيّ مدى ستساهم في تقدم أو تراجع قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس؟
الأمر الأوّل يتعلّق بحقوق البشر وتضامنهم، والأمر الثاني يتعلق بحقوق الوطن، والأمران مترابطان. فلا أعتقد بإمكان استعادة حقوق الوطن الفلسطيني من دون تأمين حدّ أدنى من وحدة الشعب من جهة، وحدّ أدنى من حقوق الفلسطينيين من جهة ثانية. كذلك لا أعتقد بإمكان تأمين حقوق الإنسان الفلسطيني بشكل مرضٍ، بمعزل عن عيشه في دولة ديموقراطية ومستقلّة.