في حب "النهار" والديك الأزرق!

حسين شبكشي
 
منذ طفولتي كانت صحيفة "النهار" جزءاً أساسياً من الوجبة الفكرية اليومية التي شكلت شخصيتي. فقد كان والدي يحرص على أن أقرأ "النهار" بشكل يومي، إضافة الى "الأهرام" المصرية و"القبس" الكويتية، وكذلك أيضاً الصحف السعودية مع حصة الاستماع للاذاعة البريطانية حتى تتكون عندي الفكرة المتوازنة لما يدور في العالم بشكل عام. كان كل ذلك قبل عصر الإنترنت والمواقع الإلكترونية واعلام منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.
 
كان ذلك هو العصر الذهبي للصحافة الورقية. بدأ احترامي لـ"النهار" وأنا أتابع العمود الصحافي الأهم لميشال أبو جودة والذي كان يقدم فيه تحليلاً سياسياً منهجياً لعيّنة الوضع السياسي في حينه. وتكوّنت عندي مفاهيم متطورة لفكرة الكاريكاتير السياسي الاجتماعي بمعناه العميق وذلك بمتابعة ما تخطه يومياً ريشة الساحر بيار صادق في أعلى الصفحة الأخيرة. وكم حلّقت مرتفعاً على وقع وسحر كلمات المبدعة الرقيقة مي منسى وهي تأخذنا معها برقي إلى عوالم الموسيقى والفن والأدب والسينما والمسرح، فتعلّم وتسمو على صفحات أطلق عليها باختصار مدهش مسمى "أدب فكر وفن"، فكانت النزهة الموعدة بين صفحات جبران مروراً بوديع الصافي وفيروز تارة وبالياس أبو شبكة وسعيد عقل تارة أخرى، وصولاً إلى مهرجانات بعلبك وبيت الدين وجبيل وما يقدم فيها. وكانت صفحات الرياضة نزهة رياضية تثقيفية بامتياز، فمنها كانت النافذة على انجازات النجمة والراسينغ والحكمة والأنصار. وكان ملحق الشباب ملهماً للأحلام ومصنعاً للأفكار وتحدياً للمستحيل.
 
وطبعاً كانت مزهرية "النهار" لا تخلو من عبق إبداعات ما يكتبه غسان تويني وسمير عطاالله وأنسي الحاج وبول شاوول ومروان اسكندر وأمين معلوف وسمير قصير وجبران تويني وسحر بعاصيري وصولاً الى نايلة وميشيل تويني اليوم. تعرفت إلى غسان تويني من طريق والدي علي شبكشي والذي كانت تربطه به علاقة صداقة بنيت على الاحترام والتقدير وعرفتني على "الأستاذ" غسان تويني لأكتشف بنفسي قامة أخلاقية راقية ومدرسة مهنية راقية، فكان له المجد، وتشرفت بعد ذلك بسنوات بكتاب تزكية منه لي موجه لإحدى الجامعات الأميركية إبان ممارسته لمهمته كسفير للبنان لدى الأمم المتحدة في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية.
 
كان ذلك وقت الحرب الأهلية في لبنان، ومع ذلك استمرت "النهار" في الصدور ولم تنقطع وذلك في ظل ظروف أقل ما يقال عنها بأنها صعبة ومخيفة ومؤلمة. ومع الوقت تحوّل الديك الأزرق الى رفيق كل إطلالة صباح أينما كنت حول العالم مقدماً بذلك الوجبة الصباحية لعقلي مع فنجان القهوة الغامق. ارتبط اسم "النهار" باستقلال لبنان وعرف عنه خطه الوطني المدني المتوازن والمستقل، وهو حافظ على هذا النهج بالرغم من كل التهديدات والتي تحقق منها بعضها مكلفاً "النهار" ثمناً غالياً فقدت بسببه أغلى الناس.
 
طالما بقيت "النهار" سيدة حرة ومستقلة، يبقى الأمل قائماً بأن يتحقق للبنان نفسه ذلك.
 
اليوم يمر لبنان بتحدٍ وجودي خطير و"النهار" تواصل صدورها اليومي حاملة مشاعل الأمل ومحاطة بصلوات دعاء محبي لبنان في كل مكان. في إحدى زياراتي للبنان كنت أتناول وجبة الإفطار في حي الحمراء، أو "الترويقة" الصباحية بحسب اللفظ البيروتي، وكانت معي "منقوشة زعتر" وعدد من صحيفة "النهار" وفاجأتني سيدة عجوز قائلة: "صباحك راقي"، قلت لها: "عفواً؟"، قالت لي مضيفة وضاحكة: "ما دامت معك النهار فأنت راقٍ". كلمات سيدة بسيطة اختزلت مكانة "النهار" وأهميتها. دامت "النهار" بخير ولا توقف الديك الأزرق عن الصياح كل صباح!
 
نُشر على "النهار العربي"