الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

العنف الجماعيّ... علاقةٌ أم إعاقة

المصدر: "النهار"
من تظاهرات انتفاضة 17 تشرين (تعبيرية - النهار).
من تظاهرات انتفاضة 17 تشرين (تعبيرية - النهار).
A+ A-

رمزي أبو اسماعيل

رافقت العنف الجماعي، أنماط التطور الاجتماعي منذ آلاف السنين. إلّا انَّ ذاك التلازم بين مظاهر العنف وتقدّم المجتمعات أسّس لفهمٍ ملتبس لدى العامة، يمكننا كي نُوضّحهُ أن نقسمه إلى قسمين اثنين:
 
الأول:
أنّ العنف سِمة فطرية مرتبطة بالتركيبة الجينية للإنسان بكافة أشكال تجلياتها!

والواقع أنّ المجتمعات الأولى لم تُوثّق حالات العنف الجماعي. وهذا يعزز أكثر نظرية التأثيرات الاجتماعية على أنها محفزات لبعض حالات العنف، كالعنف الجماعي أو السياسي.
 
الثاني:
أنّ التطور العلمي أحاط حتماً بكلّ مداخل ومخارج العنف، وهذا أبعد ما يكون عن الواقع.

ولقد أمسى من المُتّفق عليه أنّ الأفراد الذين يميلون إلى الممارسات العُنفيّة غالباً ما يعانون من اضطرابات عقلية أو نفسية.
 
والحقيقة ها هنا أنّ معرفتنا عن مسببات العنف الجماعي أو السياسي شبه معدومة!!

ونحن إذ نوغل قليلاً في تفكيك فهمنا للعنف الجماعيّ، "نرى أنّ علم السياسية وعلم الاقتصاد طَغَيا على معظم الأبحاث العلمية التي تناولت علم العنف عن الجماعات".
 
وكثيراً ما كانت مقاربات التعاطي مع العنف من بوابة تأثيره على النظام السياسي أو الاقتصاديّ.
وأرى هنا أنّ هذا التوجّه يعكس تركيزاً على نتائج العنف وليس مسبّباته.
 
بل وازداد الولوج في الخطأ حين أدى ذلك إلى فهم العنف على أنه حالة سلوكية مجرّدة. وهو إمّا أن يكون موجوداً وقائماً وإمّا ألّا يكون موجوداً وبالتالي مَعدوماً. وهذا أيضاً كلام غير دقيق. والحقيقة أنّ العنف كثيراً ما ينقسمُ إلى مكوناتٍ وأشكالٍ عدّة، وهذا يسُوقنا أيضاً إلى فهم أعمق للمسببات والأنواع المختلفة للعنف.

والأن لنحاول أن نَصوغَ سؤالاً يقودنا إلى فهمٍ أكثر استنارةً عن العنف الجماعيّ فنقول:
 
ما هو العنف الجماعيّ؟ ومتى يصبح سياسيّاً إذاً؟

العنف الجماعيّ هو عنف يمارسه شخص أو أكثر بالنيابة عن مجموعة معيّنة دينية أو سياسية بعلمها وموافقتها أو دونهما، بهدف تعزيز مكانة هذه الجماعة أو حمايتها أو الانتقام لها. حيث يتحوّل العنف الجماعيّ إلى عنفٍ سياسيّ حين تكون الغاية منها نصرة جماعة سياسية أو دينية، ولكن لأهداف سياسية.
 
وعليه فإنّ الحروب الأهلية والاغتيالات السياسية وعمليات التطهير العرقيّ والإبادة الجماعية والحروب غير الأهلية والهجمات الإرهابية حالات عنف جماعي سياسي.

وفيما قسّم علماء السياسة والاقتصاد هذا العنف إلى التعابير المذكورة والمألوفة بهدف تفصيل تأثيراتها على الأنظمة السياسية والاقتصادية، نختار نحن اليوم في علم نفس السياسة جميع هذه الحالات لأنّها تمثّل نفسيّاً حالات مشابهة تندرج ضمن نفس التعريف الذي أوردناه. فيما يبقى الاختلاف بين أنواع العنف الجماعيّ الذي يتولّد بسبب تأثيرات اجتماعية مختلفة ونعود الى هذا لاحقاً.

وفي إطار محاولة فهمنا لحالات العنف الجماعي. نرى أنّ الرؤية الأكثر واقعية هي:

العنف الجماعي هو حالة من السلوك الجماعي تتولّد عادة لدى الأشخاص الذين يطمحونَ إلى الهيمنة الاجتماعية، أي يفضلون هيمنة جماعة ما على المجموعات الأخرى اعتقاداً منهم أنّهم الأَولى بالقيادة واتّخاذ القرار.

وغالباً ما يفضّل هؤلاء حكم الحزب الواحد أو الفكر الواحد، وهذا ما خلصت اليه أبحاث عديدة أجريت حول العالم:
 
أنّ الأشخاص الذين تغلب عليهم الرغبة بالهيمنة الاجتماعية يرفضون الديمقراطية ويفضلون استخدام العنف في حلّ الخلافات الناشئة مع مجموعات أو أحزاب أخرى.

هذه النتائج ليست مغايرة في لبنان حيث خَلُصَ أحد أبحاثنا، والذي نعدّه للنشر العلميّ أنّ اللبنانيين الذين تغلب عليهم هذه الصفة النفسية هم الأكثر دعماً للعنف تجاه المجموعات الأخرى.

والحقيقةُ أنّ أولئك الذين هم أكثر دعماً للعنف الجماعي ليسوا بالضرورة هم ذاتهم أكثر من يمارسه فعليّاً. فحين نُلقي نظرة على الاغتيالات السياسية والتي نفذتها في غالب الأحيان أنظمة قمعية أو شمولية يغلب عليها الحزب الواحد أو القائد الواحد، ندرك أنّ تلكَ العمليات اتُّخذ قرار تنفيذها داخل غرف مغلقة من قبل أشخاص تغلب عليهم الرغبة بالهيمنة الاجتماعية، ولكن نفّذها مجموعة جنود أو عناصر هم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن الرغبة بالهيمنة.

هؤلاء وعلى العكس تماماً، تغلب عليهم صفة السلطوية، والسلطوية لا تعني (على الأقلّ في علم نفس السياسة والاجتماع)، في الضرورة، التسلّط وإنّما الرغبة بالخضوع للسلطة والتي غالباً ما تدفع أولئك المرؤوسين إلى الشعور بالأمان المعنوي المطلوب.
 
وعليه، يفضّل هؤلاء الانصياع لأوامر القيادات العليا إيماناً منهم بقدرة السلطة على تطبيق القانون الأعلى، (وقد تختلف القوانين التي يفضّل هؤلاء العمل بها)، والذي يخدم استقرار المجتمع.

إذًا ينقسم العنف الجماعي بين هؤلاء الذين يفضّلون الهيمنة الاجتماعية وهؤلاء الذين يفضلون السلطوية.

طرفٌ يقرّر وآخر ينفّذ. والجدير ذكره في هذا الإطار أنّ الأشخاص الذين تغلب عليهم السلطوية يرفضون العنف الجماعي ضدّ قيادات سياسية تختلف عنهم، ولكن ضمن حدود أمنهم وأمانهم، أو على الأقلّ هذا ما أظهرته أبحاثنا في لبنان؛ إذ يبدو أنّ هؤلاء، ومن شدّة رغبتهم بالمحافظة على النظام القائم كما هو، يخافون أن يكون للعنف السياسي ضدّ شخصيات سياسية قريبة منهم جغرافياً ما يؤثّر سلباً على حسن سير هذا النظام لديهم.

ويبقى السؤال طبعاً في ما إذا كان هؤلاء على استعداد لممارسة العنف ضدّ قيادات سياسية محدّدة إذا ما بلغهم أمر بذلك.

وختاماً:
نستطيع القول أنّه ومن باب تجاربنا في لبنان، أظهر هؤلاء استعداداً لممارسة العنف الجماعي والسياسي ضدّ الأفراد والمجموعات التي يختلفون معها، ولكن ليس ضدّ قياداتهم على الأقلّ بحسب ما نعلم.

إذاً نحن أمام معضلة في لبنان، حيث أنّ هؤلاء القادرين على ممارسة العنف أو تبريره، إمّا يتحكمون بالسلطة السياسية أو يدافعون عنها، فيما هؤلاء الراغبين في بناء وطن يشبهنا جميعاً، وليس لديهم توجّه ينحو للهيمنة أو الخضوع، يؤمنون وحدهم بمقاربة أهدافهم من بوابة الحوار وتقبّل الآخر.
 
وحتى ذاك الحين الذي نموت فيه جميعاً أو تستيقظ الجموع الغفيرة من رغبتها بالخضوع، سيبقى مَن بقي منا عُنفه الأوحد ورقة وقلماً.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم