السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

المثقف والسلطة... الوقت الضائع

المصدر: "النهار"
منى فياض
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-

مع أنه يصعب تحديد معنى مثقف، المقصود هنا المفكرون النقديون الذين لديهم رؤية وينشطون ويؤثرون في محيطهم.

 

والحديث عن المثقف والثقافة في بلادنا، التي تعاني من العنف والحروب وعدم القدرة على مواجهة التحديات، سواء العالمية أو المحلية، يبدو كأنه من الكماليات، مع أن الكثيرين يتساءلون أين هم المثقفون؟

 

لكن ينبغي التنويه أيضاً بأننا عرفنا مثقفين ‒ نجوماً اشتهروا في العالم العربي في مرحلة سابقة خدموا في بلاط السلاطين، وعند أعتى الديكتاتوريات.

 

لكنني لن أعالج الموضوع انطلاقاً من الوضع المحلي. أمثلتي ستعتمد على تجربة ميشال فوكو وريجيس دوبريه وغيرهما.

 

في حديث مع فوكو عن السجن، نُشر في يونيو عام 1984، سئل هل من الممكن معالجة الأمور بطريقة مختلفة؟ فأجاب أنه فكر دائماً أن الوضعيات يمكنها أن تولد استراتيجيات جديدة، وأنه لا يعتقد أننا محبوسون في تاريخ، بل العكس كان عمله أن يظهر أن التاريخ تعبره علاقات استراتيجية متحركة وبالتالي ممكن تغييرها. لكن ذلك يتطلب شرطاً، أن يمتلك القائمون على هذه السياقات الشجاعة السياسية اللازمة لتغيير الأشياء.

 

وعندما سئل هل هو مستعدّ للعمل مع رجال الحكم الحاليين، أجاب: لو أن أحداً منهم أمسك يوماً هاتفه، وطلب مني لو أن باستطاعتنا نقاش السجن مثلاً أو المستشفيات العقلية، لما تردّدت ثانية واحدة.

 

المشكلة أن أحداً لم يتصل به.

 

وفي كتابه "السجن الجمهوري" يعبّر روبير بادنتر، وهو كاتب وقاضٍ كبير، عن أسفه لموت فوكو لأنهم فكروا بإقامة لجنة، وأن يكون فوكو عضواً فيها وذلك من ضمن مشاريع معالجة شؤون السجون. الكتاب صدر عام 93، لكن الوقت كان قد فات، إذ إن فوكو كان قد توفي عام 1984.

 

وهكذا، إن كانت الحكومات الفرنسية لم تستفد من فكر شخصية مثل فوكو، فهل سيكون ممكناً أن تستفيد الحكومات اللبنانية أو العربية من مثقفيها، أيّاً كانوا؟

 

الحاكم يحكم ولا يقرأ، والمثقف يقرأ ويكتب ولا يحكم، فكيف يمكنهما أن يلتقيا!

 

يبدو أن من الصعب أن يكون للمثقف تأثير مباشر على سير الأمور، السياسية وغير السياسية عموماً.

 

ولنا من تجربة ريجيس دوبريه مثال واضح على ذلك، إذ إنه عمل بعد خروجه من السجن لفترة مستشاراً للرئيس ميتران. يكتفي الآن بكونه مفكراً وباحثاً، ينعزل في حيّزه الضيّق الخاصّ ليكتب ويتأمل.

 

عندما أجرت معه مجلة Nouvel Observateur مقابلة في عام 1992، كتب محرّرها أن ريجيس دوبريه كان محبطاً في ذلك اليوم، لأنه اكتشف في عشيته وفي أرشيف ألتوسير نسخة عن أول بحث قام به في أول سنة دراسية له في شارع ULM سنة 1961. كان موضوع البحث: "القسوة" والمصحّح لويس ألتوسير وضع له علامة 17. وكتب مادحاً: " لاتخف أن تخسر نفسك إن أنت انخرطت في الفلسفة... لديك الموهبة وبعض العبقرية... يمكنك أن تكون فيلسوفاً وحرّاً".

 

هذه الرسالة المحرّرة قبل 31 عاماً، سبّبت لريجيس دوبريه صدمة وإحباطاً. قال لمحدّثه متأملاً بصوت خفيض: "كما لو أن حياتي كانت وعداً لم يُحافظ عليه. فيلسوف: لم أكنه إلا بشكل متقطع ولم أعرف في حياتي سوى فترتين منقطعتين للحرية: سنتي في الفلسفة، والسجن. لم أمتلك فضيلة شق طريقي الخاصّ. خسرت الكثير من الوقت في ممرات السلطة. أن تكتشف بعمر 52 عاماً بُطلان السياسة لهو أمر يدعو للهزء".

 

لا يتعلق الأمر فقط بالعلاقة – الإشكالية للمثقفين بالسلطة. يتعلق أيضاً بمواضيع اهتمام المثقف، والحيّز الذي تطاله في حياة البشر وأفكارهم ومشاعرهم. ولنا من حياة ولهلم رايش Reich أكبر مثال على ذلك، فهو طُرد في البداية من الحزب الشيوعي الألماني، ثم عانى من النازية وبعد ذلك هاجر إلى الولايات المتحدة، حيث قضى آخر أيامه في المستشفى العقلي وتُوفي فيه "مجنوناً".

 

ومع ذلك يعد الآن من أهم علماء النفس المعاصرين، وطريقته في العلاج التي اعتمدت على إقامة علاقة إيجابية مع المريض، أي عكس الحياد البارد الفرويدي، هي في أصل العلاجات النفس ‒ فيزيائية الحديثة، وهناك مراكز عديدة ومهمة في العالم تتبع طريقته. هذا بالإضافة الى أنه كان من أبرز من أثّروا في حركات وافكار التحرّر الشبابية للستينيات.

 

إن تأثير المثقف نادراً ما يكون مباشراً، بحيث إن أفكاره لا تُدخل التغيير بشكل مباشر وآني، لكن للأفكار قوّة تفوق أيّ قوّة أخرى في العالم، فقط يلزمها الوقت. فترة زمنية ممتدّة كي تنتشر ويظهر أثرها، وذلك عندما يكون في هذه الأفكار قدر من الحقيقة.

 

إن مراجعة بسيطة للتيارات الفكرية التي سادت القرن العشرين، أو محاولة عمل قائمة بها، تعطينا ما يأتي:

 

فكرة التطورية، التي بحسبها نجد أن الأشكال العليا تتطور دون توقف عن الأشكال الأدنى منها.

 

فكرة التنافس والانتخاب الطبيعي.

 

الماركسية وفكرتها بأن المظاهر العليا للحياة الإنسانية مكملة ضرورية للحياة المادية.

الفرويدية وفكرتها عن اللاوعي، وأن المظاهر العليا للحياة الإنسانية تختزلها الغرائز اللاواعية وتسيّرها.

 

فكرة النسبية التي تنفي كلّ ما هو مطلق.

 

أخيراً انتصار الوضعية، وفكرتها بأن كل ما هو غير قابل للمراقبة ليس من أبواب العلم.

طبعاً هذه الأفكار السائدة، خصوصاً الأخيرة، هي قيد المراجعة الآن، وليس هذا موضوعنا.

 

لكن إذا راجعنا هذه الأفكار وفترة بروزها، نلاحظ أنها منبثقة في كليّتها تقريباً عن بشر عاشوا في القرن التاسع عشر. وإذا تساءلنا عن أصحابها، من هم! كيف رأوا انفسهم؟ ماذا كانت علاقاتهم حينها بالسلطة؟ كيف نظر إليهم مجتمعهم؟ وهل كانوا يعتقدون في داخلهم بأنهم فلاسفة عظام وأنهم سوف يسيطرون بأفكارهم تلك على أذهان أجيال بأكملها؟ وسوف يؤثرون على مصائر مجتمعات؟

 

إن هذه الأفكار لم تكن في البداية سوى محصّلة سياق ذهني قام به أفراد، غير منقطعين عن أفكار من سبقوهم طبعاً، لكنها لم تكن سوى مجرد أفكار، لزمها مدة زمنية كافية كي تتجمع الأفكار المبعثرة في البداية لتؤدي إلى تيارات فكرية فاعلة. ربما لزم ثلاثة أو أربعة أجيال كي تسيطر أفكار معينة. ونادراً ما يقع من يطلقون هذه الأفكار تحت تأثيرها.

 

يكتب فاليري بشكل ثاقب ومازح في آن واحد:

 

"إن مهمة المثقفين هي في وضع كل الأشياء تحت إشاراتها، أسماء أو رموز، بغضّ النظر عن وقع الأفعال الحقيقية. ينتج عن ذلك أن أقوالهم مدهشة وسياساتهم خطرة ولذاتهم سطحية. إنهم مثيرون اجتماعيون (Excitants)، مع حسنات ومخاطر ذلك. وهم ورثة الكهنة والأنبياء. إنهم معنيون بالبحث عن الحقيقة كما يرى لويس كروز الأميركي.

 

وينعى مارسيل غوشيه، "عصر اليساري المثقف.. إن السياسة لم تعد في مركز القيادة. إنه عصر اللا-إلتزام. لكن بالإمكان أن يكون الفرد مثقفاً ولا مبالياً بالسياسة في الوقت نفسه".

 

نُشر في موقع "الحرة".

 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم