الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

العنف ضدّ النساء يقوّض الديموقراطية في بلادنا

تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
عبير شبارو*
 
تزامناً مع جائحة كوفيد-19 وما رافقها من أزمة اقتصادية عالمية، انتشرت موجة جانحة من العنف ضد النساء حتى أطلقت عليها الأمم المتحدة "جائحة الظلّ" وشهدت المساواة الجندرية وتمكين المرأة تراجعاً دفع المسؤولين الأمميين الى مناشدة الدول اتخاذ التدابير الكفيلة بوقف هذا التدهور لما له من آثار مباشرة على التنمية المستدامة في العالم.
 
ومع تفاقم الازمات في لبنان بعد انفجار الرابع من آب وما صحبه من تعقيدات سياسية وحكومية وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية، أغفلت القوى السياسية كل ما يتعلق بحقوق النساء وحاجاتهن بعدما صنفتها ضمن الأمور الثانوية بدل الاستفادة من المواهب والطاقات البشرية المهدورة، بالرغم من التجارب الناجحة العالمية والموثقة للقيادة النسائية وأهمّيتها لتخطي الازمات وأبرزها تجارب ألمانيا ونيوزيلاندا. على العكس من ذلك، شهدت الساحة اللبنانية اشتداداً للعنف ضد النساء اللواتي رفعن أصواتهن المناهضة للوضع الحالي في محاولات لإسكاتهن وفرض وضعية التبعية للرجل من أجل المحافظة على كينونة المنظومة الذكورية البطريركية القائمة، خاصة أن صانعي هذه الهياكل وقوانينها وحرّاسها هم من الذكور.
 
شارك لبنان في وضع شرعة حقوق الإنسان وإبرمها، وكان في طليعة الدول وأولاها عربياً في تمكين المرأة من الترشّح والتصويت عام ١٩٥٢ . كما صادق على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة وعلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى أجندة التنمية المستدامة وجميعها يضع على عاتق الدول التزاماً بضمان تساوي حق الرجل والمرأة في التمتع بالحقوق الواردة فيها. وبالرغم من نص الدستور في مادته السابعة على المساواة أمام القانون وتمتع المواطنين والمواطنات بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية، وهو ما أكدته وثيقة الوفاق الوطني – اتفاق الطائف من خلال المطالبة بقانون انتخابي يراعي "القواعد التي تؤمّن صحّة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله وفعالية ذلك التمثيل" ، فإن قانون الانتخابات بصيغته الحالية وبغياب أي تدبير أو تمييز إيجابي وبوجود كوتا طائفية يضع عراقيل كبيرة أمام وصول النساء الكمّي والنوعي. ولم يتخذ لبنان أيّ إجراء من شأنه تحقيق ذلك بينما سبقته باقي الدول ومنها الدول العربية التي بادرت الى الاعتراف بالدور الأساسي للمرأة في القيادة السياسية والاستفادة من طاقاتها من أجل تعزيز الديموقراطية والمساهمة في التنمية المستدامة حيث تبوّأت دولة الإمارات العربية المتحدة المركز الثالث مقارنة بالمركز الـ١٨٥ للبنان من حيث التمثيل النسائي في البرلمان في ١٩١ دولة حسب ترتيب الاتحاد الدولي للبرلمانات. وتأكيداً لغياب الإرادة السياسية وإمعاناً في الممارسات البطريركية، رُفضت عدّة مشاريع قوانين لتمكين المرأة في السياسة من خلال تطبيق كوتا نسائية، تزامناً مع تقليص عدد الوزيرات من ٣٠٪ الى ٤٪، وارتفاع حدّة الخطاب الذكوري التمييزي الذي يعيد ربط النساء بالأدوار الإنجابية والرعائية ويضعهنّ في موضع التبعية للرجل ويقصيهنّ عن الأدوار القيادية على أبواب استحقاقات انتخابية ووطنية.
 
وقد شكّل اعتماد الأمم المتحدة الـ٢٥ من تشرين الثاني يوماً عالمياً للقضاء على العنف ضد المرأة، وهو اليوم الذي اغتيلت فيه الأخوات ميرابال المعارضات من قبل نظام تروخيو (دومينيكان) عام ١٩٦٠ اعترافاً دولياً وأممياً بهذا النوع من العنف وبأنه ليس الثمن الذي يجب على النساء دفعه للمشاركة في السياسة.
 
 
ومنذ حصول المرأة اللبنانية على حق التصويت والاقتراع عام ١٩٥٢، وصلت المرأة ٢٧ مرّة الى البرلمان من خلال ١٢ سيّدة فقط تكرّر انتخاب معظمهنّ أكثر من مرّة. ولم تتعدّ نسبة تمثيل المرأة ٤،٣٪ في أفضل الأحوال، وكانت معظم البرلمانيات على صلة قرابة أو وريثات لزعماء سياسيين كما هي حال العديد من السياسيين الرجال الذين يعتبرون أن "السياسة في لبنان هي شركة عائلية".
 
كذلك شاركت ١٩ وزيرة فقط في ٧٧ حكومة أُلّفت منذ الاستقلال وكانت أعلى نسبة مشاركة في الحكومة عام ٢٠٢٠ وبلغت ٣٠٪ .
 
وبالرغم من أن المرأة ما زالت ممثلة تمثيلاً ناقصاً، حققت بعض المكاسب في الحياة السياسية والعامة من خلال تنامي مشاركتها في العمليات الانتخابية والمجالس البلدية والأحزاب وفي بعض مواقع السلطة، وتزايد نشاطها مع المجتمع المدني. ومع ازدياد أعداد النساء العاملات في الشأن العام وتقدّم التكنولوجيا، تزايدت وتيرة العنف خاصّة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
 
 
أرقام مقلقة
وجدت دراسة المؤسّسة الدولية للأنظمة الانتخابية عام ٢٠١١ حول العنف ضد المرأة في الانتخابات، أن النساء والرجال يتعرّضون للعنف الانتخابي على نحو مختلف، حيث تتعرّض النساء للإيذاء النفسي والعنف بأكثر من ضعف ما يتعرّض له الرجال .
 
وفي عام ٢٠١٦، نشر اتحاد البرلمانيين الدوليين دراسة تظهر تعرّض ٨١،٨٪ من النساء البرلمانيات المشمولات في العيّنة لعنف معنوي، و٤٤،٤٪ منهن لتهديدات بالقتل أو الاغتصاب أو أشكال أخرى من العنف الجسدي .
 
أمّا الدراسة التي نشرتها شبكة البرلمانيات العربيات للمساواة – رائدات، في كانون الأول ٢٠١٩، فكشفت فيها عن أن ٨٠٪ من البرلمانيات العربيات المشمولات في عيّنة من ٢١٦ برلمانية من ١٦ برلماناً عربياً، يتعرّضن لعنف منهجي طويل الأمد، وأن مصادر هذا العنف غالباً ما تكون من شخصيات ذات سلطة ومن زملاء في الحزب والبرلمان.
 
وبيّنت الدراسة أن وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام من أبرز الأماكن التي تتعرّض فيها البرلمانيات لعنف نفسي ولفظي قائم على النوع الاجتماعي.
 
أمّا الأخطر فهو الكلفة الاقتصادية والسياسية لهذا العنف، إذ كشفت دراسة رائدات عن أن اكثر من ٣٦٪ من البرلمانيات يتعرّضن لعنف اقتصادي، وأن أكثر من ٧٠٪ يتعرّضن لعنف نفسي وعنف لفظي، وأن ٤٧٪ يتعرّضن لتهديدات بالقتل أو الخطف أو الاغتصاب أو الإيذاء الجسدي، وهو ما يدفع ١٢٪ من البرلمانيات العربيات خارج العمل السياسي، وأدّى إلى انسحاب الثلث وتراجعهنّ عن الترشّح للمناصب كما أدّى إلى شعور النصف تقريباً بالخوف وانعدام الأمان وأثّر على مواقفهنّ السياسية وقدرتهنّ على التعبير عنها .
 
وبذلك يشكّل العنف ضد النساء في السياسة تقويضاً للديموقراطية إذ يثني النساء عن النشاط السياسي، ويظهر أن المرأة قائدة غير قادرة وغير فعّالة ويؤثر سلباً خاصّةً على الطموح السياسي للشابات بسبب العنف المبرمج ضد النساء السياسيات، فيمتنعن عن المشاركة في الحياة العامة كالترشح للمناصب المنتخبة، ما يعزز أوجه عدم المساواة، كما يؤثر على قدرة النساء السياسيات على تمثيل مؤيّديهن أو ناخبيهن بفعالية عاكساً تجربة سلبية غير مشجّعة للناخبين على منح ثقتهم والتصويت للنساء.
 
يؤدّي السياق الوطني – السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي، الديني، دوراً في تحديد أشكال العنف وكثافته وأثره، الذي قد تتعرّض له النساء الناشطات في السياسة. فمن خلال استغلال الصور والمفاهيم النمطية الأخلاقية تغتال الشخصية ويستمال الدعم الشعبي عن الناشطات سياسياً ويجري التأثير على نظرة المجتمع نساءً ورجالاً تجاه قضايا معيّنة.
 
 
كذلك تتفاقم هذه المشكلة على المستوى اللبناني بسبب تمثيل المرأة في السياسة اللبنانية على المستويين النوعي والعددي، إذ إن معظم من تولين المراكز العليا المنتخبة (نيابة) والمعيّنة (وزارة) تعثرن ولم يقدّمن نماذج ناجحة ورائدة نسوياً وفق ما ذكرت بعض الناشطات السياسيات . فمعظم هؤلاء النائبات أو الوزيرات وصلن الى مراكزهن بسبب روابطهن العائلية، وحديثاً بسبب جنسهن في محاولة لتلميع صورة الأحزاب أمام الرأي العام من خلال إشراك المرأة رمزياً، وهن لم يصلن بسبب عملهن السياسي أو النسوي وتراكم الخبرات، فجاءت النتيجة صورية وعكسية. هن يفتقدن الخلفيات النسوية ولم يحملن قضايا المرأة ومناصرتها وتمكينها بالشكل الذي تطالب به الهيئات النسوية والمدنية، ولم يتضامنّ مع زميلات أخريات في مواجهة العنف الممارس ضدهنّ بل عززن الهياكل الذكورية المسيطرة من خلال خضوعهن للضغوط السياسية من أحزابهن وبعض المراجع الدينية خاصّة في ما يتعلق بقضايا أساسية وحيوية للمرأة كالقوانين المناهضة للعنف وقوانين الأحوال الشخصية والقوانين التمييزية الأخرى التي أضعفت المرأة ووقفت عائقاً أمام تمكينها. وفي مقابل نيل "رضى الزعيم"، زادت هشاشتهن أمام الرأي العام. وبالرغم من ذلك، فهذا لا يبرّر العنف ضدّهن بل يستوجب نقداً سياسياً.
 
وتتشارك النساء عالمياً في مسألة التحيّز في التغطية الإعلامية وتعاطي الإعلام التمييزي مع الناشطات سياسياً حيث يجري التركيز على حيواتهن الشخصية ومظهرهن وتُغفل مناقشة الأمور السياسية. كذلك فاقم تقدّم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، نسبة تعرّض النساء العاملات في السياسة للمضايقات والتهديدات عبر شبكات التواصل، وهي في أغلبها ذات طابع جنسي، كتوزيع الصور مع تعليقات مهينة وبث الشائعات.
 
ويبقى السبب الأبرز في انعدام الإرادة السياسية لمعالجة هذه القضية وحماية الحرّيات السياسية للمرأة.
 
وكما هي حال الإبلاغ عن أنواع العنف الأخرى، فإن حالات الإبلاغ عن العنف في السياسة هي أدنى بكثير من حالات حدوث العنف في الواقع بسبب ثقافة الصمت والخوف من الوصمة الاجتماعية، والخوف من الظهور بمظهر الضعف وعدم الأهلية لخوض المعترك السياسي، فيؤدّي ذلك الى الإفلات من العقاب وخاصّة في حال عدم حدوث أذى جسماني ظاهر وفي ظل آليات التقاضي التي لا تضمن الوصول السريع إلى العدالة وتضع عبء الاثبات على الضحية وفي غياب منظومة قانونية واضحة تحمي المرأة من كافة اشكال العنف وفي كافة الأماكن وهذا يؤدّي الى تمييز وتالياً الى عنف قانوني.
 
وفي غياب قانون يحفظ حقوق النساء في الوصول الى مراكز القرار فإن إمكانية تعرضهن للابتزاز والعنف تبقى مرتفعة.
 
أما في التشريع اللبناني، فيمكن للمتضرّرة اللجوء الى عدة مواد قانونية كالتشهير، القدح والذم، الاعتداء على الحريات العامة وغيرها من مواد قانون العقوبات للتقدم بدعاوى، غير أنه في غياب نص تشريع خاص، وتلطي العديد من المرتكبين وراء حصانات سياسية، يسهل الإفلات من العقاب ويصعب التجريم.
 
وقد تقدم اتحاد البرلمانيين الدوليين والمقررة الخاصة المعنية بمسألة العنف ضد المرأة في الأمم المتحدة الى الدول ببعض التوصيات للقضاء على هذه المسألة، منها الاعتراف بوجود مشكلة "العنف ضد المرأة في الحياة السياسية" وبأنها ليست الثمن الذي يجب على المرأة أن تدفعه. كما حث الدول على اقتراح وتشريع قوانين قويّة وشاملة أو إدراج أحكام مناسبة في القوانين القائمة وتطبيقها بصرامة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة في السياسة على أن تغطي كافة أنواع الاعتداءات والتهديدات ومنها الإلكترونية، وأن تعتمد على آليات تقاضٍ وإنفاذ فعّالة كما حصل في بوليفيا التي أصدرت عام ٢٠١٢ قانوناً خاصاً يعاقب كافة أنواع التحرّش الجنسي والعنف ضد المرأة في السياسة، وعززته عام ٢٠١٦ بقرار صدر عن وزارة العدل يمنع بموجبه كل من له سابقة عنف ضد المرأة من الترشّح لأيّ منصب سياسي. كما عدلت المكسيك قانون معاقبة العنف ضد المرأة وقانون الانتخاب لإضافة تعريف العنف السياسي ضد المرأة، وكذلك فعلت كندا وتونس ودول أخرى.
 
أسّس كنيكولو مكيافيلي لقاعدة "الغاية تبرّر الوسيلة" التي باتت أيضاً قاعدة لكل سياسي أو فاسد أخلاقي أو طاغية لتبرير أعماله وفرض هيمنته ولو بالقوة، إذ اعتبر مكيافيلي أن بث الخوف ضروري للسيطرة على الشعوب . لذلك يمكننا الاستنتاج أن العنف المبنيّ على النوع الاجتماعي يستهدف بث الخوف في نفوس النساء الراغبات أو العاملات في المجال السياسي للسيطرة عليهن وإقصائهن عن المشاركة السياسية.
 
إن المناهضة الجادة لظاهرة العنف تقتضي عدم تجزئة القضية وتناولها بمعزل عن قضايا المجتمع والأمة، والبحث عن الأسباب الحقيقية لتفاقم الظاهرة التي تعكس انتشاراً للعنف ضد المرأة في الحيّز الخاص يمتد ويتمدّد من دون محاسبة لينتشر كآفة في الحيّز العام. فقضيّة العنف ضد النساء تتأثر بما تعيشه البلاد من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وبالطبع، فإن المشاركة والقيادة السياسية للمرأة ليست العوامل الوحيدة لتحقيق السلام والرخاء العامين، لكنها عوامل ضرورية ومحورية لما للتعددية من آثار إيجابية مثبتة على كافة الأصعدة وخاصة على تعزيز الديموقراطية.
 
* خبيرة في الشؤون الجندرية
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم