الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

لم أستطعْ أنْ أحبّكَ يومًا فسامِحْني يا دييغو

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
اللوحة لمنصور الهبر.
اللوحة لمنصور الهبر.
A+ A-
في الفوتبول، لم أكن يومًا من مريدي فريق الأرجنتين.
 
نقطة ضعفي التي لا تنافسها أيّ نقطةِ ضعفٍ أخرى، كانت رقصة السامبا.
 
سحرٌ ما، لا أشتهي تفسيره، بل فقط الغرق فيه، كان يشدّني إلى اللعبة البرازيليّة دون سواها. إلى درجة أنّي كنتُ أزدري ازدراءً غير منطقيّ، وغير مبرّر، بل غير أخلاقيّ، سَحَرَةَ "المستديرة"، وموهوبيها، وأبطالها، ونجومها، وعباقرتها، ومرقِّصيها، ومدوِّخيها، في كلّ أرضٍ، وتحت كلّ سماء. 
 
وعلى طريقة العشّاق "الملطوشين"، كنتُ أعمى تقريبًا، بل تمامًا (على طريقة الملطوشين الآن في عقولهم السياسيّة والحزبيّة والطائفيّة)، فلا أرى الواقع، ولا أعقله، ولا أيَّا من أساطير اللعبة. 
 
كحالي مع النساء، حيث كنتُ أعجز عن الالتفات إلى أيّ امرأةٍ، سوى تلك المرأة التي لطشتْ عقلي، وزعزعتْ كياني.
 
كان دييغو ينادي الطابة بعينيه، بيديه، بقدميه، بعقله، بقلبه، بجوارحه، بوعيه، بلاوعيه، فتأتيه منصاعةً، بقدرةِ قادرٍ، وبسحرِ ساحرٍ، ومن تلقائها، فيجنّنها، ويجنّن أعضاء فريقه، ويجنّن الفريق الخصم، ويجنّن المرمى المستهدَف، ويجنّن حارسه، ويجنّن منطقة الجزاء، ويجنّن الزيح، ويجنّن الشِّباك، ويجنّن الحكّام، ويجنّن الجماهير المؤيّدة والمنافسة، ويجنّن النقّاد والمعلّقين والمراقبين، وأيضًا الناس غير المعنيّين باللعبة.
 
والدي، المغفور له الشيخ داود، كان يحبّ دييغو في سرّه، ويتمنّى فوز الأرجنتين على البرازيل، وفوزها على الآخرين جميعهم، لكنْ من دون أنْ يعلن ذلك أمامنا، تفاديًا للزعل، وربّما "احترامًا" لانتمائنا العائليّ الكبير وشبه الجماعيّ إلى الفريق البرازيليّ. 
 
والدتي أديلّا الكوبانيّة (المولودة في ماتانسا، من أعمال كوبا)، التي لا يزال محمود مصرًّا على اعتبارها راهبةً كرمليّةً، وقدّيسةً، هي وبناتها الأربع، كانت أيضًا مغرمةً بالأرجنتينيّ، وكانت لا تتردّد، شأن خالتي أنهليتا، في إشهار ولائها له أمامنا، معتبرةً أنّ هذا حقّها الطبيعيّ في التعبير عن الرأي أو الانحياز، فضلًا عن رفضها المسّ بصراحتها المشهودة، أو تخفيف حدّتها.
 
كان بيليه الذي خلقه الله وكسر القالب، معبودي، ومعبود الشلّة الضيّقة والواسعة من الرفاق والأصدقاء والجيران، هو وكلّ مَن ينتمي إليه في تلك اللعبة، في بلاد البنّ تلك، حيث الغابات والجنّيّات الساحرات الفتيّات الخضراوات السمراوات اللاهثات الراقصات المعربِدات (بقداسة)، والتي أقصى أمنياتي الحقيقيّة والافتراضيّة أنْ أزورها، لأغرق غرقًا مهيبًا وجليلًا في سحرها، ولأعشقها أكثر ممّا أعشقها، ولأذوب في كينونتها، وأكون برازيليًّا على مقربةٍ من غارينشا، وزاغالو، وتوستاو، وجرزينيو، وزيكّو، وسقراطس، وريفيللينو، وكارلوس ألبرتو (اللبنانيّ الأصل)، ورونالدو الأصليّ... 
 
أذكر في خلال فترة الحرب، وبسبب انقطاع الكهرباء، أنّنا كنّا نقصد منطقة الصنوبر على طريق الفنار المفضية إلى بيت مري، حاملين معنا تلفزيونًا صغيرًا للغاية، كنّا نوصله ببطّاريّة السيّارة لمتابعة مباريات المونديال، وملاحقة الفريق البرازيلي في حلّه وترحاله، في انتصاراته الجليلة وهزائمه المريرة.
أعترف الآن، أنّي كنتُ أكرهكَ، يا دييغو – المعروف بمارادونا - كرهًا عظيمًا. وكنتُ أغار منكَ. وكنتُ أشتهي الشرّ لكَ. وكم كنتُ أتمنّى أنْ تُصاب بعطبٍ يجعلكَ كسيحًا، فيمنعكَ من اللعب في المطلق، وضدّ "السيليساو" على وجه التحديد والتخصيص.
 
كنتُ أكرهكَ يا دييغو. ولم يكن ثمّة ما يبرّر هذا البغض سوى قلّة عقلي (أكرّر: كمثل خفّة العقول السياسيّة والحزبيّة والطائفيّة في لبنان العظيم اليوم)، وضعفي البشريّ الساذج، وعمى قلبي.
 
كنتَ يا دييغو لعّيبًا عبقريًّا. نقطة.
لكنّي – لعلّةٍ فيَّ وليست فيك - لم أستطع أنْ أُحبِّكَ يومًا، وأنتَ على أرض الملعب. 
ليس لسببٍ، بل خوفًا من عبقريّتكَ فحسب. 
أعترف الآن أنّكَ تستحقّ منّي كلّ انحناءٍ واعتراف. فسامِحْني.
سامِحْني يا دييغو.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم