الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"الممانعة" وأزمة السلام

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
تظاهرات نسائية في إيران.
تظاهرات نسائية في إيران.
A+ A-
سألني الدبلوماسي الأوروبي عن صحّة الاتهامات المزمنة للسعودية بتحريكها الشارع الإيراني، ومن بينها تصريحات وزير الاستخبارات التهديدية الأخيرة بأن الخليج لن يهنأ بالأمن إذا اهتزّ أمن إيران، وكذا المتحدّث باسم وزارة الخارجية، الذي كشف عن أن إيران أوعزت إلى الحوثيين بعدم تجديد الهدنة الأمميّة حتى تتوقف الرياض عن توجيه المتظاهرين، وتخمد الانتفاضة.

أب بلا أبوه!
فأجبته بأنّ هذه الاتهامات فيها إهانة بالغة للشعب والحكومة والنظام كلّه. تخيّل لو أنّ أباً كان يفاخر بحسن تربيته وتعليمه ومعاملته لأبنائه، وبمدى ثقته فيهم وولائهم له واقتدائهم به. ثم، بعد أربعين عاماً، يوجّه لهم الجارّ الذي طالما شيطنه، وحاربه، وألّب عليه، رسالة بودكاست أو تليغرام بالتمرّد على أبيهم، وحرق صوره، والخروج على طاعته، فينفّذون بلا تردّد، فيضطرّ الأب المفاخر بعياله، المشفق على عيال جاره، إلى المساومة بالتوقّف عن التأليب والتآمر والأذى ضدّ جيرانه مقابل إخماد ثورة عياله.

الأب المُهاب والمطاع، الذي فرض نظامه الصّارم، المقاوم، وحقق حلم كلّ ثورة، بتحقيق العدالة المجتمعيّة وتوزيع الثروة، حتى أصبحت داره "جنة الله في الدنيا" التي يصبو إليها كلّ "المستضعفين في الأرض"، تعهّد بنشر التجربة الناجحة في كلّ مكان، وتصدير أسلوب الحياة إلى كلّ مَن حوله. بدأ بجيرانه، والتزم بمدّ يد العون إلى من ينهج نهجه، ويقرّ بعبقريّته ويعلن الولاء له، حتى يفرض إرادته على شعبه وبلده، وينضم إلى قائمة المحظوظين من "الولائيين" و"التابعين" و"عبيد الولي الفقيه".

تصدير الشعب
وفات أو فوّت الأب الوالي أن أبناءه يغادرون داره طلباً للعلم والرزق والحياة "المختلفة" في دُور الآخرين، وأن أبناء الآخرين، بمن فيهم الطائعون، المؤمنون، والمخلصون له، لا يطلبون الإقامة عنده، بل في بيوت "الاستكبار" و"الظلم" و"الفجور"! وأنّ من بَقي من عياله عنده، يعيش على ما يبعثه له إخوته من مساعدات، ويشتكي كلّ يوم من أن قوته لا يكفيه، وأنّه أولى من غيره بحصاد مزرعته.

ويذكّر الابن أهل البيت بأنّ عليهم مقاسمته اللقمة والدواء، والملبس والسكن، فلا يصحّ أن يناموا شبعى وهو جائع، وأن يصابوا بالتخمة ويُبتلى هو بفقر الدم. يطلبون العلاج في مستشفيات الغرب، وبأدوية "الكفار"، ويتعالج هو بالبصقة وتقبيل الأقدام والتمسّح بالقبور و"سراويل الموتى". ويرفض أن تطبق عليه القوانين الحازمة، المتقشفة، الصارمة، فيما يدوس عليها السّادة والحرس والخدم.

ثورة إلى الأبد!
قلت لسائلي: إن المشكلة في إيران، هي مشكلة الثورات الأزليّة، وحلولها هي حلول الساسة في كلّ مكان. فالثورة، كما يشي اسمها، هي حالة تمرّد على السّلطة. وبالتالي، تنتهي مهمتها عندما يتسلّم الثوار السلطة، ويُصبح المحكوم حاكماً. ولكنّ الثورات في العالم الثالث مسألة أخرى، فالخوف من أن يثور الناس على السّلطة الجديدة يدفع الحكّام الجدد إلى رفع علم الثورة إلى الأبد. فهي من ناحية تُوحّد الصفوف، وتفسّر القصور، وتبرّر الأنظمة المتسلّطة. وهي، للخارج، تجمع الحلفاء، وتصنع الأعداء، وتُبقي المحيط في حالة صراع دائمة.

وهنا، يُصبح السلام خطراً. فاليوم الذي تنطفىء الثورة، وتتوقف المقاومة، وينتهي الخطر، هو اليوم الذي يبدأ مشوار الحكم الرشيد، والبناء والتنمية. وهو اليوم الذي يُطالب فيه الشعب بتحقيق الوعود والأهداف. هو يوم العمل، ويوم الحساب، وفي حالة الفشل، يوم الثورة المضادة.

استحقاقات السلام
للسلام منافع، وله أيضاً استحقاقات. والأنظمة، دول أم جماعات، التي قامت على التحدّي، والفوضى، والاسترزاق، لا تستطيع أن تتعايش مع بيئة التعاون والسّلام والقانون. ولذلك، انهار الاتحاد السوفياتي، وروسيا الاتحادية من بعده، عندما أصبح العدو صديقاً، والصّراع حواراً، والمواجهة دبلوماسيّة. ولذلك أغلقت المنظّمات الفلسطينية المتطرّفة دكاكينها بعد توقيع اتفاقات السّلام مع إسرائيل، ولهذا فقد نظام معمّر القذافي سلطته بعد التصالح مع الغرب.

أمّا الذين واصلوا الطريق، فقد نجحوا في تفادي فرص السّلام، وواصلوا الثورة على الشعب، والحرب مع الخصوم. فهذه إسرائيل ترفض مبادرة السلام العربية التي طالما طالبت بمثلها؛ وهذا الحوثي يرفض تمديد الهدنة، ويواصل ادّعاء العدوان عليه، حتى بعد أن صمتت المدافع إلا مدافعه؛ وهذا "حزب الله" يدّعي الحاجة إلى سلاح المقاومة، حتى بعد أن طبّع مع إسرائيل وتعهّد بحماية حدودها؛ وهذه إيران، في عزّ تطبيعها مع الغرب بعد توقيع الاتفاقية النوويّة، ترفض السّلام مع جيرانها، وتواصل حربها الشفوية مع إسرائيل.

الحبل القصير
لكن التفادي وإن طال، والشعلة وإن عمّرت، والحيلة مهما نجحت، سيأتي يوم تصل إلى نهاية الطريق، وتنطفئ النار لنفاد الوقود، وتعود بك الطريق المسدودة لتواجه متابعيك بحقيقة الضياع، والفشل، ونهاية الحلم والأمل. وسيأتي اليوم الذي تسقط فيه الأقنعة، وتعصف رياح الحقيقة بالأكاذيب، ويتلفّت المتيّمون بك حولهم، ليكتشفوا أن الساعة تعود بهم إلى الوراء؛ والقافلة تقصر وتتباطأ وينصرف عنها كلّ من استيقظ بعد ليلٍ طويل، ولم يبق مع حاديها إلا المغيّبون مثلك.

والشعب الإيراني وصل لهذا اليوم، في هذا اليوم. فبعد أربعة عقود من الاشتعال وصل إلى حالة الاحتراق، واكتشف كباره وصغاره، خاصّة شبابه وبناته، أنّهم ضحيّة خدعة كبرى. فالعالم من حولهم يتقدّم وهم يتراجعون. والثروات التي كانت لهم أنفقها الملالي على أنفسهم وأحلافهم؛ والجيران الذين كانوا يطلبون العلم والرزق عندهم، هاجروا هم إليهم، فأبهرهم ما وصلوا إليه.

تغيير النظام!
الفرس أهل حضارة وثقافة وتاريخ، يعتزّون بإرثهم، ويفتخرون بنسبهم، ويصبون إلى مسابقة الأمم، وعندما يكتشفون أنّهم تأخّروا نصف قرن في هذا السباق، وأنّ حرّيتهم المسلوبة، وطاقاتهم المهدورة، وخيراتهم المسروقة، تضحيات لم يقابلها إنجاز واحد يُفتخر به، أو حلف يُعتمد عليه، أو مكانة دوليّة يُعتزّ به، وأنّهم لم يعد لديهم ما يخسرونه بعد أن خسروا كلّ شيء وربحوا لا شيء، فسينتفضون حتماً. وليسوا في ذلك بحاجة إلى موجّه أو محرّض. هذه ثورة بلا قادة، وحراك شعبيّ بلا قيادة، وهدف توحّد حوله الجميع، وشعار حمله الصغير والكبير، المثقّف والجاهل، المدينيّ والقرويّ: "الشعب يريد تغيير النظام!".

وعليه، فلا مسكّنات ممكنة، ولا حلول مؤقتة، ولا وعود مصدّقة. فالأمر يتجاوز الحالة المعيشية التي يخنق الفقر فيها ثلثي السكان، والفساد المستشري الذي يفلس البنوك، ويسرق الودائع، ويخفض الرواتب، وينهب الاستثمارات. ولا الإخفاقات الحكومية المزمنة أي مواجهة تبعات الكوارث الطبيعية، من زلازل وأعاصير وأوبئة. ولا توقف عمليّة البناء والتنمية في المدن والأرياف والبنية التحتيّة على موروث الدولة "الشاهنشاهية". ولا هيمنة المعمّمين على مفاصل الحكم والمال والجيش والعلاقات الدولية والتعليم.

خيار الموت والحياة
فدوافع ثورة الشباب في إيران تراكمت أسبابها واستفحلت أعراضها، ولذلك هي كلّ ما سَبَق وأكثر. والأهمّ في تقديري سيادة ثقافة الموت، وتغييب جودة الحياة بحريّاتها وخياراتها، بآفاقها ومُتعها وخيراتها. وهذه لا علاج لها لأنّها عرض لمرض، هو نظام الحكم نفسه بدستوره وقوانينه، بمرتكزاته وتركيبته.

الجمهورية الإسلامية في إيران تواجه اليوم استحقاقات السّلام، بالرغم من كلّ طبول الحرب. فقد أدرك أبناؤها وبناتها حقيقة أنّ استراتيجية تصدير الثورة وفنّ صناعة الأعداء أوديا بحقوقهم وأحلامهم إلى مقابر التاريخ، وأن خديعة "السلطة الثائرة"، أكذوبة الخطر الداهم، وأعذار التصدي والمقاومة والممانعة، القصد منها تأجيل العمل الأهمّ وتحقيق الهدف الأسمى: بناء البلد وتطوير المجتمع ونشر ثقافة الحياة، وعمارة الأرض، وصولاً إلى جنّة الدنيا. أمّا جنّة الآخرة فبين المرء وربّه من دون ضمانة كاهن أو مفوّض أو وسيط.

ولهذا، أتوقّع استمرار الثورة، وقمع الدولة، وسقوط النظام. ولن يساعد في إطفائها الاستعانة ببنادق "حزب الله" اللبنانية، والحوثيّ اليمنية، والحشد العراقية، وفاطميون الأفغانية، وزينبيون الباكستانيّة. "فلا نسب اليوم ولا خلّة... اتّسع الخرق على الراقع"، "وهل يصلح العطّار ما أفسد الدهر؟!

@kbatarfi
أستاذ في جامعة الفيصل

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم