الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

عندما غادرت شعبي وعدت إليه بعد أسبوع

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
غسان صليبي
 
غادرت شعبي ولم أغادر وطني، فلا وطن لي لأغادره. الوطن هو شعب ودولة وحدود. دولتي مصادرة وحدودي مشرّعة، ولم يبقَ لي سوى شعبي. سبق وعايشت شعور الانسلاخ بين الانتماء إلى الشعب والانتماء الى الوطن، خلال رفقتي الطويلة لأصدقائي الفلسطينيين القاطنين في الضفة وغزة. لكن في فلسطين احتلال يفسّر غياب الدولة والحدود. فهل في بلدي ما يشبه الاحتلال؟
 
كان عليّ أن اسافر لأسبوع أنا وزوجتي، للقيام بمهمّة يمكن أن تساعد أولادي على مغادرة بلدهم في حال أرادوا ذلك. تردّدت كثيراً قبل السفر، وعاودتني أوجاع كانت قد انكفأت منذ مدة. وهي عادة ما تحلّ عليّ عندما تتصارع في داخلي الرغبة مع الواقع.
 
لم أكن أريد أن أترك شعبي. الشعور بالانتماء إلى شعبي عاودني بقوّة عندما شاركت بالتظاهرة المركزية أمام نصب المغترب اللبناني في الذكرى السنوية الأولى لانفجار ٤ آب. لم تكن مسألة الانتماء تشغل بالي بتاتاً في هذا اليوم. كنت أحصر تفكيري بالجريمة، وكيفية التضامن مع الضحايا. باكراً نشرت نصاً سعيت من خلاله للحثّ على المشاركة. "أخرج إلى الشارع ولا تخف فهم يقتلونك في بيتك"، كتبت مخاطباً أصدقائي الفيسبوكيين، معلّلاً ما استطعت، ضرورة النزول إلى الشارع في ٤ آب. فقد كنت قلقاً على حجم المشاركة بعد الانكفاء الشعبي في المدة الأخيرة، وبعد التخويفات الإعلامية من حوادث أمنية. أضف إلى ذلك الطقس الحار وتكاليف الانتقال والتدابير الأمنية المعلنة بالنسبة إلى الطرقات.
 
توجهت من جونيه إلى نصب المغترب قبالة المرفأ، في سيارة أجرة، لكني اضطررت إلى الترجل عند وصول السيارة قبل "الفوروم"، حيث قطعت قوى الأمن الطريق المؤدية إلى مكان اللقاء الشعبي. كان الناس يتوافدون ويتوجهون مشياً على الأقدام وصولاً إلى تقاطع طريق المرفأ والطريق العام المؤدّي إلى ساحة الشهداء.
 
شعور مباغت انتابني منذ انضمامي إلى قافلة الناس. أحسست فجأة بالانتماء اليهم. لم أكن أحتاج إلى نقاش وحوار معهم، لأكتشف هوية مشتركة معهم. كنا نسير باتجاه واحد وفي مناسبة واحدة، على طريق يؤدّي إلى مكان واحد، حيث سنطالب معاً برفع الحصانات تحقيقاً للعدالة، لضحايا انفجار المرفأ. الشعور بالانتماء قادني بسرعة إلى أن أقول في نفسي بشيء من الارتياح " أنا في وسط شعبي".
 
"الشعب مصطلح في علم الاجتماع والسياسة يشير إلى مجموعة من الأفراد أو الأقوام يعيشون في إطار واحد من الثقافة والعادات والتقاليد ضمن مجتمع واحد وعلى أرض واحدة." هذا المصطلح يصلح للحالات العادية حيث الشعب يمارس تقاليده وعاداته بشكل روتيني. الشعب الذي شعرت بالانتماء إليه، هو شعب يتحرّك في الشارع، بعد أن توقف عن ممارسة عاداته وتقاليده اليومية لفترة وجيزة من الزمن. يطلقون على الشعب وهو في هذه الحالة، مصطلح "الجمهور"، الذي يتكلّم ويتصرّف وكأنّه فرد واحد. ويعتقد البعض أنّ الفرد وسط الجمهور يفقد عقلانيته، ويصبح أكثر انقياداً لمشيئة قائد أو زعيم.
 
لم يكن هناك زعيم يوجّهنا ويحرّضنا في ٤ آب. لذلك كنا جمهرة من الناس، ولم نكن جمهوراً بحسب المصطلح العلمي. شعرت بالانتماء إلى هذه الجمهرة، وأسميتها "شعبي"، هذا الشعب الذي ينتمي إلى جميع المناطق والطوائف والمذاهب والطبقات الاجتماعية، ويطالب بالعدالة في وجه طبقة سياسية حاكمة متهمة بالقتل والسرقة. هذه "الوحدة" غير المتحققة إذا نظرنا إلى الشعب في وضعه الستاتيكي المعبر عنه في المصطلح السياسي، بدت لي متحققة، عندما كان الشعب في حالة حراك في الشارع. فانتابني هذا الشعور الطاغي بأنّني كنت أمشي وسط "شعبي".
 
هذا هو الشعب الذي أحسست بأني أغادره عندما سافرت. إنّهم هؤلاء الذي يتعرّضون للظلم وللاضطهاد وللإذلال، فكيف أسافر وأتركهم عرضة للأذى في كلّ لحظة؟ كنت أعي تماماً أنّ بقائي في لبنان لن يحمي "شعبي"، وإنّني في الواقع لا تأثير لي على مجريات الأحداث، رغم مشاركتي الدائمة في التحرّكات، ورغم كتاباتي شبه اليومية، التي تحاول أن تقيّم ما حصل وتقترح المقاربات التي تعتقد أنّها مفيدة لانتفاضة شعب.
 
مع ذلك سافرت والدمعة في عينيّ، "متل واحد ميّتلو حدا قريب ومعزوم عالسهرة". نعم هو ما يشبه السهرة، الخروج من البلد حيث يتوفر الدواء والخبز والكهرباء والبنزين والمازوت، وكافة الخدمات العامة التي لا يمكن للناس أن يعيشوا بدونها. نعم، كانت دمعة وكانت معها ابتسامة بأنّني أغادر جهنم لبعض الوقت. إنّها "دمعة وابتسامة" إذا، كما عند جبران خليل جبران المغترب عن بلده الذي أحبّه وابتعد عنه في آن واحد.
 
لا أحتاج لذكر البلد الذي سافرت إليه، بل إني اتقصّد عدم ذكره. فلا أريد للقارئ أن يعتقد أن مشاعري لها علاقة بالبلد الذي زرته، بقدر ما هي مرتبطة بمغادرة شعبي إلى مكان، أيّ مكان، توجد فيه خدمات عامة تؤمّنها الدولة لمواطنيها، بدون التوقف عند نوعية هذه الخدمات ومستوى الرفاهية في البلد.
 
إذا لن ألجأ إلى المقارنة بين الوضع في بلدي والوضع في البلد الذي زرته، فالمقارنة لا تصلح بين حالة انهيار تام، وحالة وضع طبيعي، ولا يوجد أيّ إفادة من المقارنة التفصيلية. المقارنة الوحيدة في ذهني كانت بين ما يعيشه شعبي من ذل وبؤس، وما يعيشه الناس الذين كنت ألتقيهم خلال سفري. اختبرت انعكاس هذه المقارنة على احاسيسي، خلال حقبات سابقة، من مثل مرحلة حرب ١٩٧٥ وفترة حرب تموز ٢٠٠٦، حيث كنت أضطر للبقاء خارج لبنان لأيام عدّة أو شهر، بسبب إقفال المطار، أو بسبب استحالة الوصول إلى منزلي عبره.
 
والسؤال الذي كان يلح عليّ بقساوة في مثل هذه الحالات هو لماذا على شعبي تحمُّل كل هذه العذابات، بدل العيش بسلام مثل الكثير من الشعوب الأخرى؟ لم أكن أجد أيّ تبرير، لا طائفي ولا طبقي ولا قومي، يسمح لي بتفهم هذه العذابات أو باعتبارها تضحيات لا بدّ منها، لا في حرب ١٩٧٥ ولا في حرب ٢٠٠٦. حتى في هذه الحرب الاخيرة، لم تكن بوادر صمود حزب الله في وجه العدوان الاسرائيلي ومجازره، تخفف من شعوري العميق بعبثية هذه الحرب، التي أقرّ نصرالله انه لم يكن ليبادر إليها لو انه عرف مسبقاً حجم الردّ الإسرائيلي. ولا ازال أذكر ملاحظة صديقة شيعية مؤيّدة للمقاومة بعد حرب ٢٠٠٦. فبعد أن شرحت لي بإعجاب كيف جرى إعادة اعمار بنت جبيل، استطردت متسائلة: "لكن هل كان الهدم ضرورياً؟".
 
في سفرتي هذه، لم أستطع أن أفصل ذهني ومشاعري عمّا يحصل في بلدي، رغم إني عرفت شيئاً من الراحة والاسترخاء، وحتّى من الاستمتاع ببعض الأنشطة أو الزيارات أو اللقاءات. فكنت أتابع الأخبار بالتفاصيل، ولم انقطع عن الكتابة حول أوضاع بلادي. وقد لاحظت بأن ما كتبته كان محاولة للتعويض النفسي عن غيابي الجسدي، فدعوت مرة إلى الخروج من الطوابير، ومرة أخرى إلى وصل الأمل الذي انقطع.
 
المقارنة بين عذابات شعبي والحياة الطبيعية التي يعيشها شعب آخر، اتخذت هذه المرة طابعاٍ آخرَ. فالعذابات ليست نتيجة حرب عسكرية، تترك للهجمات المتبادلة والخلافات الاقتصادية والسياسية، مجالاً لتبرير نفسها. أنها حرب سياسية - اقتصادية تشنّها طبقة حاكمة على شعبها، قتلاً وسرقة وإذلالاً. لا وجود لطرفين يتحاربان، بل طرف واحد يعتدي بسلاح رسمي وغير رسمي، وبأدوات مؤسساتية وادارية وقضائية، على شعب أعزل.
 
التقيت هناك صديقة عراقية وصديقتها اللبنانية، اللتين غادرتا بلديهما لتعيشا حياة كريمة في الغربة مع عائلتيهما. في اللقاء أعدنا اكتشاف علاقة القربى بين ما يحصل في لبنان وما حصل في العراق، لا من حيث القوى المهيمنة فقط، بل من حيث تشابه المعاناة الشعبية أيضاً، رغم الفروقات الكبيرة في الإمكانيات الاقتصادية بين البلدين.
 
وجهات نظر الصديقتين الشيعيتين، العراقية واللبنانية، متقاربتان إلى حدّ التماثل، في إدانة سيطرة القوى الإسلامية التابعة لإيران. إدانة من موقع نسوي. إدانة من موقع علماني. إدانة من موقع يساري. تأثرت كثيراً بهذا التصالح الذي أصبح نادراً، بين التحرّر الاجتماعي والتحرّر الاقتصادي والسياسي. لكن هاتين الصديقتين قالتا لي دون أن تقولا، أن هذا التصالح لم يعد ممكناً في بلدينا، ولا بدّ من الرحيل، لأن الظلم والظلام مستمران إلى أمد غير منظور.
 
عدت إلى شعبي بعد انقضاء أسبوع. عدت مبتسماً للقاء عائلتي وأصدقائي. لكني عدت والدمعة في عينيّ، لأنني سأفتقد للحياة الطبيعية. عندما غادرت بلدي كانت هناك دمعة رافقتها ابتسامة. في عودتي إلى بلدي كانت هناك ابتسامة ترافقها دمعة. يبدو أن الدمعة لن تفارق الابتسامة بعد اليوم، ذهاباً وإياباً، هذا إن لم تحتل الوجدان كلّه.
 
قبل أن تحط الطائرة في لبنان، سمعت امرأة أربعينية تقول لابنها الصغير الجالس إلى جانبها: "وصلنا على بلد القرف، في حدا بيكره بلدو؟ أنا. ما كنا رجعنا بهذه السرعة لولا المدارس". ونظرت إلى زوجها الذي يجلس في مكان آخر مع ابنته الصغيرة: "شوف المسافرين أكتر من الواصلين، نيّالن. يلعن حظي." الزوج الذي في عمر الأربعين أيضاً، لم يُجب، وهو لم يتكلّم مع ابنته طيلة مدة السفر. فقد بدا ساهياً، وربما كان يفكّر بما ينتظره من واجبات أبوية، هو الذي لم يعد باستطاعته إلّا الاتكال على نفسه، في بلد تخلّت فيه الدولة عن مسؤولياتها كافة.
 
بيني وبين هذين الوالدين، عقدان من الزمن. هما يهتمان بتعليم أولادهما، وأنا وزوجتي نهتم بإيجاد عمل لأولادي خارج لبنان. نربي أولادنا حتى يهاجروا، هذا إذا سمحت لهم ظروفهم المعيشية. وإلا لا تعليم ولا هجرة، بل التحاق بزعماء مجرمين، يحتلون الوطن.
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم