الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

هل بقي لنا غير المحبة نسند إليها رأسنا؟

المصدر: "النهار"
الميلاد في لبنان (أ ف ب).
الميلاد في لبنان (أ ف ب).
A+ A-
كتب غسان صليبي
 
إلى روح غريغوار حداد لمناسبة ذكرى ميلاد معلمه.
 
منذ بدايات دراساتي الجامعية، وانا منشغل بالعلاقة بين المحبة والنضال الاجتماعي والسياسي. الفارق بين البارحة والامس، ان الخيارات في الماضي كانت مفتوحة، فيما هي اليوم جد محدودة.

كان سؤالي في البداية: ما الذي ينقذ البشرية، النضال ام المحبة؟ اصبح سؤالي اليوم: هل تستطيع المحبة انقاذ ما عجز عنه النضال في بلادي؟

أطرح السؤال الاول من منطلق علماني انسانوي. فيما اطرح السؤال الثاني اليوم، لمناسبة عيد الميلاد، ميلاد يسوع المسيح الذي تختصر المحبة حياته وفكره، وذلك لحلول العيد في فترة نحن احوج ما فيها الى المحبة.

لم تبقَ العلاقة عندي بين المحبة والنضال الاجتماعي والسياسي، مجرد اشكالية فكرية، بل شكلت دائما اساسا لطريقة تعاطيَّ مع الشأن العام، ومع الشأن النقابي بنوع خاص.

وكانت لي فرصة اختبار هذه العلاقة عندما طلب مني صديقي الراحل المطران غريغوار حداد، تولي مسؤولية التنسيقيات بين المؤسسات الاجتماعية على المستوى الوطني، هذا المشروع الضخم الذي اطلقه في عز الحرب وإبان تقطيع اوصال الدولة. كنت آنذاك لا ازال مستشارا للاتحاد العمالي العام، لكن مع ظروف الحرب وتقطع العمل، كان بإستطاعتي التفرغ بعض الشيء للقيام بما طلبه مني غريغوار. إذاً كان مطلوب مني، انا القادم من النضال الاجتماعي السياسي وفكره واساليب عمله، ان انتقل الى العمل في مجال التنمية والإغاثة.

ربما توفرت لي فرصة في المستقبل للكلام عن هذه التجربة وعن هذه الرفقة الجميلة مع غريغوار، التي لم نتكلم خلالها عن الدين الا نادرا جدا. كان رجل دين وكان يمارس الطقوس الدينية، وانا كنت ولا أزال لاأدريا وإنسانويا ولا امارس هذه الطقوس. لكن كلينا لم يكن يبالي. وكأن كل واحد منا كان مطمئنا الى ان ما يحرك الآخر هي المحبة ولا حاجة الى حكاية أخرى ليخبرها أحدنا للآخر

سمحت لي هذه التجربة بالمقارنة على الارض بين انشطة التنمية والإغاثة من جهة والنضال الاجتماعي السياسي من جهة أخرى. عندما كنت شابا وادرّب على هذه القضايا، كنت اعطي الافضلية للصراع الاجتماعي والسياسي على الاعمال التنموية والإغاثية، في مجال تحسين ظروف الناس، على اساس انه الاقدر على احداث تغييرات بنيوبة جذرية تؤمّن تبدلا اعمق في الاوضاع على المدى البعيد. وكانت المسألة تبدو كأنها خيار ببن مقاربتين بدتا متناقضتين.

مع غريغوار اكتشفت بالملموس ان هناك الكثير من الاوضاع والحالات الاجتماعية، تستوجب تدخلات سريعة لا يمكنها ان تنتظر التغيرات البنيوية البطيئة، من مثل هذه التدخلات مساعدة المشردين والمسنين والمعوقين والمستوصفات في خدماتها اليومية. لكن غريغوار كان يُغلّب دائما الهم التنموي البعيد المدى والمُخطّط له على متطلبات الإغاثة الآنية، هو الذي رافق التجربة التنموية الشهابية، القائمة على الدراسات والتخطيط العلمي.

هكذا تعرفت إلى ثلاثة ميادين في مجال تحسين ظروف البشر، واكتشفت بالممارسة ان لكلٍ ضرورته ومقاربته وناسه وفائدته. والاهم ان لكلٍ وقته، الذي لا تفرضه فقط حاجة الناس الملحة، بل أيضا الواقع الاقتصادي ككل وشروط العمل الاجتماعي والسياسي في البلد المعني.

استذكر هذه المسائل في وقت يعاني لبنان انهيارا شاملا على الصعد كافةً، مما يستوجب أنشطة إغاثية متعددة، مع شبه استحالة لأي افق تنموي عام. في حين تعجز سبل المواجهة الاجتماعية والسياسية حتى الآن عن احداث التغيير المنشود، في ظل انكفاء الانتفاضة نسبيا وتبعية الاتحاد العمالي للسلطة السياسية، ورفض إجراء انتخابات نيابية مبكرة من قبلها، وعودة الاغتيالات او الكلام عنها، كوسيلة عنفية للجم العمل السياسي والقضائي.

أعمال الاغاثة والتضامن المجتمعي واكبت الانتفاضة حتى فى عز صراعها مع السلطة. اليوم اصبحت هذه الاعمال تستهلك معظم مجهودات مجموعات الانتفاضة والمجتمع المدني، خاصة بعد انفجار المرفأ، لكن مع الاستمرار في تنظيم تحركات احتجاجية متقطعة.

في هذا السياق، وفي اطار غلبة الجهد الإغاثي على ما عداه، اتساءل عن دور المحبة في إيجاد منافذ خلاص لللبنانيين المقفلة في وجوههم السبل كافةً.

مروحة الاغاثة تتراوح بين المساعدات المالية والعينية، الغذائية والصحية والسكنية والتعليمية وغيرها، إضافة الى الخدمة المباشرة لأشخاص من أشخاص آخرين. ويجري تطعيمها عادة ببعض المشاريع التنموية المحدودة، من مثل التدريب والقروض المحدودة المسهّلَة للمساعدة على انشاء مؤسسات صغيرة حرفية. كذلك تُنظم انشطة مجانية فنية او ترفيهية، ويجري في بعضها توزيع هدايا للاطفال لمناسبة عيد الميلاد. يمكن للإغاثة او التنمية ان تتما انطلاقا من واجب ديني او وطني او اممي. ويمكنهما ان تتما أيضا كتعبير عن المحبة بين البشر.

ما اتمناه في حالتنا اللبنانية، هو ان تكون انشطة الإغاثة وما يرافقها من انشطة تنموية محدودة، مناسبة لإختبار مشاعر المحبة وتطويرها بين اللبنانيين. اكثر من ذلك، سيكون من الضروري ان تبتكر المحبة اساليب أخرى للتضامن والتعاون، لا تندرج تحت مسمى الإغاثة او التنمية، بل بما اصبح يعرف بالاقتصاد الاجتماعي التضامني البديل.

المحبة لا تغيث او تساعد او تخدم فحسب، بل تغيّر ما في البشر، الذين يمارسونها والذين يتلقونها، وخاصة على مستوى النظرة الى الذات والى الآخرين وكذلك على مستوى النظرة الى الخوف واليأس والى الواقع المأسوي الذي نعيشه، والذي سيبدو ارحم وقابلا للتغيير من خلال المحبة بين الناس.
 
اعتقد ان تجربة المحبة هذه بما تخلقه داخل الشخص وفي علاقته بغيره، كفيلة بإعادة النبض الى الصراع الاجتماعي السياسي وربما برؤية انسانوية اعمق. عندما تشح الموارد الخارجية، نعود الى المورد الام، الذي هو في اساس ولادتنا، نعود الى المحبة، هذه الطاقة التي تولد معنا وتستمر حتى الممات.
 
غريغوار حداد لم يكن يفصل دافع المحبة عن كل مشاريعه الإغاثية او التنموية. او حتى السياسية، عندما كان يطرع العلمانية. رسالته المسيحية اختصرها بممارسة المحبة وبالوقوف كليا الى جانب الفقراء، مما أدخله في صراع طويل مع الكنيسة الكاثوليكية المحلية. كم كان جميلا لو كان غريغوار لا يزال حيا فيسمع البابا فرنسيس وهو يقول ان كنيسة يسوع إما تكون كنيسة الفقراء او لا تكون كنيسته.

مقاربة المحبة" اذا صح التعبير، التي اعتمدها غريغوار، قامت على ما اعتقد على اركان عدة: عطاء بدون توقع مقابل، عدم التعاطي بالمسائل المالية مباشرة من قبله، العمل مع فريق متجانس متعدد المذاهب ذي توجه علماني، مساندة جميع اللبنانيين بدون تمييز وبحسب احتياجاتهم، الانطلاق من هذه الاحتياجات من خلال تنظيم اللقاءات مع المعنيين ومشاركتهم الكاملة في المشاريع، جهد متواصل لتجميع الطاقات والارادات الحسنة من ناشطين وباحثين اجتماعيين، عدم الاحباط واليأس وابتكار الامل رغم كل الصعوبات وبدون اغفال التقييم النقدي، التوفيق بين المثالية والواقعية في العمل والحث على التفكير واقتراح مقاربات وانشطة جديدة تواكب التغيرات، إضفاء جو من الإلفة والود بين الجميع.
 
مع زحف الفقر الى بيوت اللبنانيين، لا اعرف بعد كيف سيكون تأثير ذلك على الكنائس المسيحية، والسؤال مطروح بحدة في ذكرى ميلاد يسوع. هل ستُجيِّر امكاناتها الضخمة لنشل الفقراء من واقعهم، ام انها ستستخدم الفقر لترسيخ المزيد من التبعية بينها وبين رعاياها؟ وماذا سيكون موقف رعاياها من الفقراء، هل سيتشكل عندهم وعي إيماني جديد أقرب الى ما علّمه يسوع وبشر به غريغوار، يضع المحبة قبل الطقوس، ويؤدي بدوره الى إجبار الكنائس عل تغيير سلوكياتها؟
الموقف من السلطة هو موقف من الفقراء. فكلما كانت الكنائس اقرب الى السلطة، كانت ابعد من الفقراء الذين يعانون تحديدا جراء سياسات هذه السلطة وبشكل لم يعد يحتاج الى إقناع. فهل يحسم البطريرك الراعي مثلا امره، وبدل ان يدافع عن موقع رئاسة الجمهورية او حاكمية مصرف لبنان، ويأخذ موقفا قاطعا منهما؟ في المقابل هل يصبح موقف الراعي أكثر حزما من مسألة دعم القاضي صوان الذي تحاصره الطبقة السياسية؟
 
مسألة القاضي صوان لا تعني قضية العدالة بالمطلق فحسب، بل تطال حياة الناس وارزاقهم التي دُمّرت بفعل انفجار المرفأ، والتي تتحمل مسؤوليته كامل المنظومة السياسية بمن فيها رئيس الجمهورية.
 
هل سيكون من معنى لرسالة الميلاد هذه السنة، التي من عادة البطريرك ان يطلقها في المناسبة، اذا لم تتضمن موقفا قاطعا، نصرة للفقراء من جهة، وانتقادا لِمُفقِريهم من جهة ثانية؟ "فليكن كلامكم نعم نعم او لا لا، وكل ما زاد على ذلك، فهو من الشيطان"، قال يسوع.
 
يسوع، الذي نحتفل بذكرى عيد ميلاده هذا الاسبوع، لم يكن يفعل شيئا بدون محبة، وكانت المحبة بالنسبة إليه نهج حياة، واجه بها ومن خلالها شروط البنى الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية، التي تعيق سعادة الانسان.
 
نحن كلبنانيين بحاجة الى التأمل بمعنى هذا العيد، والتمسك بفكرة ان المحبة في ما بيننا قادرة على مواجهة هذه الكراهية التي تحاصرنا من الخارج، وتلك التي تتحكم بحياتنا في الداخل، من خلال نظام وافراد فاسدَين ومرتَهنين.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم