الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

عن صفائح المعدن التي تزنّر حياتنا المقتولة... "ما ضروري هيك تكون آخرتنا!"

"ما ضروري هيك تكون آخرتنا!".
"ما ضروري هيك تكون آخرتنا!".
A+ A-
إيلي حداد

"ما ضروري هيك تكون آخرتنا": هذا الشعار المكتوب على صفائح المعدن التي باتت تزنّر فندق "لوغراي" الشهير في وسط بيروت، يدل بشكل مأسوي على الواقع الحزين الذي وصلت اليه البلاد. فالتظاهرات التي بدأت في 17 تشرين الأول 2019 وتطورت لاحقاً الى اشتباكات مع قوى الأمن التي تحصّنت داخل "غيتو مجلس النواب" أدّت الى إفراغ الوسط التجاري من كل حياة، وصولاً الى إغلاق المراكز التجارية والسياحية، وآخرها فندق "لوغراي".

صفائح الحديد التي نصبت بارتفاع ملحوظ لحماية واجهات الفندق وزنّرته على مداره، تذكّرني بأعمال فنية لبعض نجوم الفن المعاصر في الغرب، وعلى الأخص ريتشارد سيرا.

سيرا، الذي نشأ في سان فرنسيسكو، بدأ دراسته في الأدب الانكليزي قبل أن ينتقل الى الفن. كان لزياراته الى مركز عمل والده في أحواض بناء السفن التأثير البالغ في أعماله اللاحقة. من أبرز أعمال سيرا، التجهيز المسمّى "القوس الملتوية" (Tilted arc, 1981) التي نصبت في وسط الساحة الفيديرالية في نيويورك. هذا التجهيز الفني هو كناية عن حائط من الصفائح الحديد ترسم مساراً منحنياً يقطع الساحة ويفصل بين فضائها متحدياً المعاني التقليدية لما كان يُعرف بفنّ النحت الحديث.
بالطبع لم تنل أعمال سيرا إعجاب الجميع، فالبعض لا يفهم معاني، أو ربما غياب المعنى عن هذه الأعمال التي تبدو إعتباطية أو في مطلق الأحوال بسيطة الى درجة الحدّ الأدنى. اعترض بعض السكان على هذا العمل الذي بدا لهم "بارداً" ومجرّداً، كما انه يجذب بشكل طبيعي الـ"غرافيتي" الذي يغزوه بين الحين والآخر. واجه سيرا منتقديه الذين يرون في استعمال الحديد الصدِئ نوعاً من الابتذال الفني، بأن هدف الفن المعاصر ليس وضع منحوتات تبهر الناس بموادها القيّمة مثل الذهب أو الفضة، وتساهم بشكل مباشر في استمرارية منظومة السلطة والنظام الاقتصادي المبني على القيم المادية التاريخية، كما انها لا تهدف الى إحياء المعاني المبتذلة، بل هي تحاكي الوضع المدني أو الموقع الطبيعي من خلال الانخراط في تحديده وإبراز تراسيمه الحسيّة.
 
يركّز سيرا في شرحه لأعماله على كونها أشياء لا تبغي تسليط الضوء على شكلها وإنما تهدف الى "إحتواء" الفضاء الخارجي وتحفيز الاختبار الشخصي للزائر أو للشخص الذي يمّر بقربها أو يدخل فضاءها، بحيث يدفعه ذلك الى تكوين صورة شخصية للمكان. لكن هذه الاختبارات، وإن حدثت في عاصمة الفنّ المعاصر، اي مدينة نيويورك، لا تضمن نجاحها واستمراريتها. هكذا، وبعد استمرار الاعتراضات على "القوس الملتوية"، تم تفكيكها بعد 8 سنوات على إنشائها في ساحة المدينة.

لكن هذا لم يثنِ سيرا عن الاستمرار في نهجه وأسلوبه الفنّي، فوضع العديد من الأعمال الفنية التي تميزّت باستعمال صفائح الحديد، وقد انتشرت أعماله من أميركا الى البرازيل الى قطر وغيرها من البلدان. في استعماله للحديد، اعتمد سيرا على طريقتين: صبّ الحديد الصلب في أشكال بيضوية أو متمايلة، أو تركيب العمل الفني من صفائح أقل وزناً وأكثر خفة.

في مدينة سان لويس في ولاية ميسوري، وضع سيرا عملاً فنياً في إحدى الساحات العامة أعطاه إسم "توين" (1981) وهو كناية عن تجهيز من ثمانية أقسام حديد، تشكل في ما بينها مثلثاً مفتوحاً. وفي العام 2008 دُعي سيرا الى تنفيذ عمل آخر داخل "المتحف الكبير" (Grand Palais) في باريس، فوضع تجهيزاً من خمس قوائم حديد، ترتفع كل واحدة منها الى 14 متراً بعرض 4 أمتار منفصل بعضها عن بعضها في مسار أطلق عليه الفنان عنوان "النزهة". الأسلوب ذاته اتبعه سيرا في تركيبته الفنية "شرق ـ غرب/ غرب ـ شرق" التي تنتصب في الصحراء القطرية (2014) والمكوّنة من 4 صفائح من الحديد ترتفع أيضاً 14 متراً، وضعت في مسار واحد يمتد على مسافة كيلومتر واحد من هذا الفضاء الخالي. تبدو هنا "منحوتات" سيرا وكأنها في موقعها المثالي، تحاكي بماديتها الأساسية والمجرّدة، فراغ الصحراء وطبيعتها القاسية.

في تقييمها لأعمال سيرا، تقول الناقدة ديبورا سولومون (نيويورك تايمس، 28 آب 2019) بأن سيرا قد يبدو خارج مسار الفن المعاصر في زمن "الواقع الافتراضي" حيث يتم التداول البصري بآلاف الأعمال على شاشة إنستغرام، لكنه لا يزال يصرّ على الواقع المادي للعمل الفنّي الذي يترجم الى أعمال كبرى في حجمها وتأثيرها، وهذا ما ينطبق بالطبع على كل أعماله وصولاً الى تركيبته الفنيّة في صحراء قطر.

من هنا، أوّد العودة الى واقعنا الحالي والى التجهيز الفنّي غير المقصود في وسط بيروت، والذي أتى كردّ فعل طبيعي على حال الفوضى وعلى الانهيار الاقتصادي الذي وصلنا اليه. فصفائح الحديد التي تزنّر فندق "لوغراي" الفخم، تعاكس بوجودها نظريات الرفاهية وتشكّل تحدياً لإستمرار الحياة الطبيعية، وهي بذلك تتحوّل الى "مانيفستو" فنّي يسلط الضوء على حال الانسداد السياسي ـ الإقتصادي ويعبّر بشكل من الأشكال عن الفساد المستشري الذي حوّل المدينة الى واقع مغلق، مقفل ومنتهي الصلاحية. وإذا كان الفن المعاصر قد وضع كأحد أهدافه إظهار التناقضات المخفية للتركيبات الاجتماعية والسياسية، التي تحاول الانظمة السياسية في مختلف أنحاء العالم إخفاءها وطمرها تحت سطح التسويات السياسية، والتمويه عنها من خلال الاحتفالات الموسمية التي تجمع الطبقات الاجتماعية والمجموعات المختلفة، فإن "تصفيح" فندق "لوغراي" بهذه التركيبة، وإن كانت غير مقصودة الاهداف، تتحوّل فعلياً الى عمل فنّي رائد. وإن لم يكن كافياً وجود هذه التركيبة، ومؤلفها المجهول الهوية، فإن الفنان الغرافيكي الذي سطّر على جدرانها الحديد تلك الكلمات الموجعة، "ما ضروري تكون هيك آخرتنا"، قد رفع مرتبة ذلك العمل الفنّي وأضفى عليه بُعداً آخر.

من هنا، سيترتب على أصحاب الفندق، وعلى السلطات البلدية، عند انتهاء فترة الحداد هذه على وطن نخره الفساد، أن يعيدوا تركيب هذا العمل في مكان آخر، ربما في ساحة الشهداء، ليبقى شاهداً على مرحلة سوداء من حياة وطن أسدل الستار على مئويته الأولى في جوّ من الحزن واليأس أضفت عليه جريمة المرفأ المزيد من الأسى. وقد يكون من اللائق والمناسب أن يُضاف الى هذا العمل الفنّي بعد إعادة تركيبه في ساحة الشهداء كلمة إهداء: "الى شهداء ثورة تشرين وضحايا جريمة المرفأ".
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم